هالة الشرع المُنقَذ
كيف يغازل الرئيس السوري غرور الغرب
نوفمبر 2025
يُبدي كثيرون في الغرب افتتاناً بمسيرة أحمد الشرع، من وكر لتنظيم القاعدة في الموصل إلى قصر الرئاسة في دمشق. غير أن هذا الافتتان يخفي وراءه هوساً غربياً عميق الجذور بفكرة التطهّر والخلاص، وغالباً ما يتّسم هذا الهوس بنزعةٍ استعلائية غير معلَنة. فعبر تحويل الشرع إلى مرآةٍ تُعرَض عليها أساطير الغرب، يُخشى أن يبني صانع القرار الغربي سياساته على الوهم لا على الواقع.
كان الرئيس أحمد الشرع في بداية مسيرته اسماً غامضاً، ثم صار حقيقة جليّة في سوريا. بقي زعيم جبهة النصرة في الظل لسنوات، فيما كانت قوّاته تنفّذ هجمات مدوّية، قبل أن يخرج إلى العلن عام 2021 ، حين وافق على أن يكون محور فيلم وثائقي للصحافي الأمريكي مارتن سميث بعنوان «الجهادي». عندها اصطحب الشرع سميث في جولة بسيارته عبر «إقطاعيته» في إدلب، مجيباً عن سؤال ثمين جداً: لماذا ينبغي لأيٍّ كان أن يثق به؟ وفي حالته كان السؤال ثمنه عشرة ملايين دولار حرفياً، وهو حجم المكافأة التي رصدتها واشنطن لرأسه. ومع ذلك، تبيّن أن الولايات المتحدة قد حسمت أمرها بعدم مطاردته، وكما أكّد المبعوث الأمريكي إلى سوريا، جيمس جيفري، آنذاك، فقد رأت واشنطن في الشرع «ورقة مفيدة»، وشخصاً يمكنه السيطرة على إدلب وتزويدها بمعلومات عن تنظيم داعش. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يوافق الشرع على الظهور في فيلم سميث في لحظةٍ كانت فيها القوى الغربية تتقبّل تدريجياً حكمه في شمال غربي سوريا. ومع هيمنة وحشية داعش على الصورة العالمية لـلعمل الجهادي، كانت هناك حاجة ملحّة لإعادة تشكيل هالة الشرع.
بحلول ذلك الوقت، كان عدد من مراكز البحوث ومنظمات المسار الثاني (الخلفي والسري) (Track II) قد رسّخت قنوات تواصل متينة مع الشرع، مروّجة لرسالته القائمة على البراغماتية والاعتدال. وفي المقابل، نالت هذه الجهات منفذاً إلى هيئة تحرير الشام وعالمها المصغَّر بإدلب. و تبيّن أنّ هذه الحملة القائمة على «القوة الناعمة»، إلى جانب العلاقات غير المعلنة التي نسجتها أجهزة استخبارات غربية وإقليمية مع تنظيمه على مدى سنوات، كانت حاسمة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، حين قاد الشرع الهجوم الذي أطاح بنظام الأسد. كانت نشوة السوريين بسقوط الأسد عارمة إلى حدّ أنّ قليلين فقط توقفوا ليتسألوا عن التفاهمات التي تمّ التوصل إليها مسبقاً مع الداعمين الخارجيين، وبأيّ ثمن. وبين ليلةٍ وضحاها، أُعيد تقديم الشرع في صورة المحرّر والبطل. وعاد يتحدّث، هذه المرّة بصفة رجل دولة، فاستُقبلت رسائله العلنية بشغف، ليس من السوريين المنهكين من الحرب فحسب، بل أيضاً من سياسيين وباحثين وصحافيين غربيين.
صناعة الهالة
إنّ الافتتان الغربي بالشرع أعمق من مجرد حسابٍ براغماتي يرى فيه «الخيار الأقلّ سوءاً». وهو يتجاوز أيضاً موجة النشوة والارتياح التي رافقت سقوط الأسد. وقبل كل شيء، يعكس ما يرغب الناس في أن يروه فيه؛ افتتاناً وظّفته بلا هوادة حكوماتٌ وشبكاتُ مناصرةٍ تدفع باتجاه تكريس قيادته. وهذا الافتتان جديرٌ بالتدقيق، لأنه كثيراً ما تصنع التغطية الإعلامية الأفكار أكثر ممّا تفعله الحقائق نفسها. وهذه الهالة المحيطة بالشرع هي التي منحته حُسن الظن لدى حكوماتٍ غربية ومحلّلين ومعلّقين، أي الاعتقاد السائد، بأنّه، على الرغم من المؤشرات المقلقة، يستحقّ أن يُعطى فرصةً لإعادة بناء سوريا، وأن يحظى بالدعم السياسي والمادي الغربي لتحقيق ذلك.
جاءت رسائل الشرع في أعقاب سقوط الأسد مُصاغة بعناية، ومشحونة بدهاء سياسي لافت. قال كل ما أراد الغرب سماعه: إنّ سوريا تدخل فصلاً جديداً من الاستقرار، وإنّ بوصلتها تعيد التوجّه نحو الغرب، وإنّه منفتح على جميع الطوائف والأعراق. ورسم صورةً لسوريا جديدة جامعة ومسالمة، تحترم حقوق المرأة وتعيش بسلامٍ مع جيرانها. ونظراً إلى أنّ الصراع السوري قد أخذ طابعاً دولياً للغاية، واعتمد الشرع على داعمين خارجيين، كان من الصعب على سوريا ألا تنخرط في تنافسات إقليمية ودولية متشابكة. غير أنّ "جزرة" السلام مع إسرائيل، وإنهاء أزمة اللاجئين، وفرصةً «لا تتكرّر» لإخراج إيران وروسيا من المشرق، بدت مغرية إلى حدّ يصعب مقاومتها. وأجاد الشرع تقديم نفسه بوصفه الثائر الرشيق، في مفارقة لافتة مع «ساسة البدلات الرسمية» في الغرب: رجل فاعل خَبِر الميدان، لكنه «أبصر النور» اليوم وتبنّى بروتوكولات الدبلوماسية.
لامس الشرع إيمانَ الغرب الدائم -وغالباً المُدمِّر- بالقدرة على تخليص الاخرين
هذا ما جعله منصّةً مثالية لإسقاط الافتتان الثقافي الغربي العميق بفكرة التطهّر والخلاص: قائدٌ سابق لتنظيمَي داعش والقاعدة طوى صفحة اللباس العسكري والعمائم، وقصّر لحيته وارتدى بدلة عصرية. في المخيال الغربي، عاش الشرع حرفياً «لحظة الطريق إلى دمشق»، على غرار شاول الطرسوسي الذي قتل المسيحيين الأوائل، ثم سمع صوت المسيح بعد سنوات من غيابه على طريق دمشق، فاعتنق المسيحية وأصبح بولس الرسول.
وتتجذّر حكايات التحوّل من هذا النوع في الثقافة الغربية، من «مسرحيات الأخلاق» في العصور الوسطى إلى «البؤساء» وأفلام «هاري بوتر» و«حرب النجوم». بهذا المعنى، يلامس الشرع إيمانَ الغرب الدائم -وغالباً المُدمِّر- بالقدرة على تخليص الاخرين، وهو إيمان ألهم الحروب الصليبية والاستعمار على حد سواء. وقد اهتزّ هذا الاعتقاد النرجسي على نحوٍ بالغ بفعل «الحرب على الإرهاب» والغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، لكنه تلقى دفعةً جديدة بانتصار الشرع وتراجع نفوذ روسيا وإيران في سوريا. وعلى صُعُدٍ عدة، يُمثّل الشرع اليوم للغرب تسويةً طال البحث عنها لأزمةٍ نفسيّة-ثقافية خلّفها فشلُ السياسات الغربية في الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين، ألا وهو البرهان على أنّ عرباً مسلمين صُنّفوا يوماً «متطرّفين لا يُرجى إصلاحهم» يمكن أن يتبنّوا قيَم الغرب ومعاييره، وأن يُظهروا الامتنان لـوصايته.
بالمقابل، يوفّر الشرع لمعسكر ما بعد الاستعمار الأيديولوجي (اليساري العالمي) منصّةَ إسقاطٍ أخرى؛ إذ يبدو كأنه يزكّي قناعتهم الراسخة بأن العالم الثالث ينبغي أن يتحرّر من داخله، وأنّ توصيف "الإرهاب" كان على الدوام أداةً للقوة الغربية صيغت لتجريد خصومها الأيديولوجيين من الشرعية.
السعي إلى الكرامة
لخّصت محادثة الشرع في سبتمبر/أيلول مع المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ديفيد بترايوس، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، هذه «المغازلة» الغريبة بين القوة الغربية وخصمها السابق. فالبريق في عيني بترايوس لا يمكن تفسيره بمجرد المدفوعات السخية التي يُظَنّ أنّه تقاضاها؛ إذ تعامل مع الشرع كما لو كان نجماً، قائلاً له إنّه من «المعجبين». وكما في لقاءات سابقة، وجد الشرع نفسه يصغي إلى رجلٍ غربي - في هذه الحالة جنرال بأعلى الرتب أشرف على احتلال العراق عقب غزو غير مشروع قادته الولايات المتحدة، وأودى بحياة مئات الآلاف من المدنيين- يهوِّن من حقيقة جلوسهما معاً اليوم، وكأن الحرب كانت مزحةً ثقيلة.
الشرع نفسه يكره أن يُنعَت بـ«البراغماتي»، ففي اللغة العربية يوحي هذا المصطلح بشخصٍ لا تحكمه القيم. غير أنّ للشرع منظومة قيم راسخة.
ابتسم الشرع لهذه المعاملة التي تبدو ساحرة في ظاهرها لكنها عميقة الاستعلاء في جوهرها، ومضى في مجاراته طلباً للاعتراف الدولي الذي يتوق إليه بشدّة. يُشيد كثيرٌ من المراقبين الغربيين بقدرته على التكيّف، ويعدّونها العلامة الفارقة لـلزعيم «البراغماتي». غير أنّهم يغفلون الخطر الملازم لهذا الوصف: فإذا بلغت البراغماتية مداها، فإنّها تُجرِّد صاحبها من القناعة حتى تصبع السلطة غايته الوحيدة، وقد تُستخدم أي وسيلة لتحقيقها وحمايتها.
والشرع نفسه يكره أن يُنعَت بـ«البراغماتي» لهذا السبب تحديداً. ففي اللغة العربية، يوحي هذا المصطلح بشخصٍ لا تحكمه القيم. غير أنّ للشرع منظومة قيم راسخة، قد لا يروق بعضها للغرب، وتبرز بينها قيمةٌ قبل سواها: الكرامة؛ كرامته هو، وكرامة العرب السُّنّة. لطالما قال إنّ توقه إلى الكرامة هو ما شكّل شبابه، وإنّ مشاهدته للانتفاضة الثانية هي التي دفعته إلى قتال الأمريكيين في العراق.
لطالما دفع السعيُ إلى الكرامة رجالاً إلى حمل السلاح، كما تشهد الثورةُ السورية نفسها. ومع ذلك تبقى الكرامة عصيّة المنال. فقد أسهمت حكوماتٌ غربية في إبادةٍ جماعية في غزة، وتواصل إسرائيلُ احتلال أراض سورية جديدة بلا تنديد يُذكر، فيما يستأثر العربَ السنّة بمشاعرُ العداء للمهاجرين في أنحاء أوروبا، وعلى نحوٍ غير متناسب. ولا تزال شخصياتٌ، مثل مبعوث ترامب إلى سوريا، توم باراك، تُمعِن في خطابٍ استعلائي وتروِّج لسياسات الوصاية. في هذا المناخ، تحوّل الشوق إلى الكرامة الذي كان يوماً وقوداً للمقاومة إلى نزعة لدى بعضهم نحو القوة الصلبة والسيطرة المطلقة، باعتبارهما الضمانتين الوحيدتين للبقاء في نظامٍ إقليمي ما زال يقوم على الإذلال والتحكّم.
قد تفرش العواصم الغربية اليوم السجاد الأحمر للشرع، لكن ذلك لن يدوم إلّا بدوام اعتباره في صفّها. غير أنّ الافتراض بأنّه كذلك هو السذاجة بعينها. فالشرع ليس مُعتنِقاً للقيم الغربية بقدر ما هو ماهر في التكيّف السياسي؛ فهو رجلٌ أتقن فنّ محاكاة توقّعات الغرب، فيما يسعى بهدوء إلى تحقيق أجندته الخاصة. وخطابه عن البراغماتية والإصلاح مصمَّم لمغازلة الغرور الثقافي الغربي. ويبدو أنّه يدرك أنّ ثمن القبول الغربي هو أن يتحوّل إلى ما يشبه "علامة مسجلة" سياسية ترمز لانتصار الحضارة على الهمجية. إلا أنه دورٌ لن يرضى بأدائه إلّا لوقتٍ محدود. ليس مستغرَباً، إذن، أن يواصل حديثه، في دائرته الضيّقة، عن الحاجة إلى بناء جيشٍ كبير وقوي، وأن يُحذّر من صراعٍ طويلٍ مقبل.
الأجدى بالغرب أن يتخلّى عن اسقاطاته العاطفية، أو هالة الشرع المُنقَذ هذه، وأن يتعامل بواقعية مع قائد مناور يسعى لأن يكون رجلاً قوياً في المنطقة. ولربما بدأ الغرب إدراك ذلك.