هل السلفيّة الجهادية في الشام ظاهرة فريدة؟
27. ديسمبر 2025
سلكت الجهادية الشامية التي تتبناها هيئة تحرير الشام مساراً مغايراً بشكلٍ لافتٍ عن كلٍّ من تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة. يقتضي فهم أسباب هذا التمايز العودة إلى تاريخ الحركة، وتفحّص جذورها الاجتماعية، وقراءة السياق السياسي الذي تشكّلت ضمنه.
قدّم الروائي السوري فواز حداد، في روايته «جنود الله»، الصادرة عام 2010، حبكة مشوّقة عما حصل في العراق بعد الاحتلال الأمريكي من خلال قصة أب يساريّ شيوعي سوريّ يدخل إلى العراق للتفتيش عن ابنه الذي ترك سوريا وانضمّ إلى تنظيم «القاعدة» وصار قائداً فيه.
تقدّم سيرة حسين الشرع، والد الرئيس السوري الحالي، مثالاً عن أحد أفراد هذا الجيل اليساري الذي فشلت أحلامه الوحدوية وانتهى إلى ترك سوريا فيما كان ابنه يخوض مغامرة خطيرة عبر الانتظام في «القاعدة». كان الشرع، قومياً ناصرياً مناهضاً لحزب البعث، طارده النظام لذلك وسجنه لفترات قصيرة، وترشّح عام 1972 لعضوية مجلس محافظة القنيطرة عن «الجبهة الوطنية التقدمية» (وفاز)، ثم لعضوية مجلس الشعب عام 1973 (وفشل). أصبح مستشاراً لوزارة النفط، وتعاقد عام 1979 للعمل في السعودية.
قدّم الواقع السياسي الاجتماعي للمنطقة انقلاباً دراميّاً هائلاً في تلك الحبكة، ولو أن الرواية تنبأت بعودة الابن ظافراً إلى سدّة الحكم، وسجّلت لقاءه بالجنرال ديفيد بترايوس، خصمه العسكريّ والأيديولوجي، وهو يرحّب به في واشنطن، ويعتبر سوريا تحت قيادته «نموذجاً استثنائياً لتصحيح مسارات كثيرة جرت فيها قرارات خاطئة»، لعدّت ربّما من نوع الأدب السوريالي. أسقط هذا الانقلاب مسلّمات كبرى تتعلّق بالجهادية المسلّحة، بحيث حوّل مدوّنة هائلة لدول، ومراكز أبحاث، وأكاديميات، وتقارير لأجهزة الأمن في أنحاء العالم، إلى أنقاض.
فرادة الجهادية الشامية
أفسح سقوط نظام الأسد المجال لقراءة أكثر واقعية للمفاهيم، وخصوصاً لتاريخ الجهادية المسلّحة الشامية بداية من خروجها العاصف عن نسختي تنظيم «الدولة الإسلامية» و«القاعدة» اللتين ذهبتا نحو الصراع مع كل العالم والإقليم؛ إلى تشكل فصيلها الرئيسي، «هيئة تحرير الشام»، الذي انتظم في سيرورة أنهى فيها، تقريباً، خلال حكمه لإدلب، نفوذ خصومه الأيديولوجيين أولئك، لينتهي بالقضاء على نظام الأسد، والسيطرة على مقاليد الحكم في دمشق.
لقيت هذه النتيجة احتضاناً إقليمياً وعالمياً، يفتح الدائرة المغلقة التي ما يزال تنظيما «الدولة» و«القاعدة» ضائعين داخلها، كما فتح المجال لرجعة الجهادية السلفية المسلّحة إلى طبيعتها التاريخية الإصلاحية الأولى، في نسختها الشامية المعتدلة، السلمية غير التكفيرية، والمحتضنة للتنوع المذهبي والديني.
تبرز في موضوع التأريخ للسلفية المسلحة نقاط عديدة ملتبسة، يعود التباسها لأسباب أهمها سيادة نمط سياسي وأكاديمي وأمني يقوم بتكرار قوالب إعلامية وكليشيهات تقيم سوراً عظيماً بين الأيديولوجيات والواقع؛ والركون إلى مسلّمات بينها التركيز على أثر السلفية النجدية في سيرورة السلفيات العربية والجهادية المسلحة؛ إضافة إلى فصل أكاديميّ ونخبوي للتجربة العربية عن تجارب عالمية، كما هو حال الثورتين الإنكليزية والأمريكية، اللتين كان للدين فيهما دور بارز في التقدم الاجتماعي والسياسي.
مكر التاريخ!
يعتبر الاستخدام الانتهازي لورقتي الإرهاب والجهادية المسلحة، ركنا أساسياً في سردية نظام الأسد، وكان إطلاقه لظاهرة الشيخ محمود قول أغاسي مثالا فظا على ذلك الاستخدام. تبنى أغاسي في عام 2003، بتوجيه من النظام، خطاباً سلفياً علنياً يدعو الشبان السوريين للقتال في العراق، ومع تبيّن كونه مصيدة أمنية أفتت جماعات جهادية بهدر دم أغاسي، وانتهت حكايته باغتيال مرجّح له على يد مخابرات النظام عام 2007.
سمحت هذه الظاهرة، مع ذلك، لشبان مثل أحمد الشرع بالدخول إلى العراق عام 2003، حيث ستعطيه سنوات القتال والسجن والعودة لسوريا، الخبرات الكافية لتجنّب الأخطاء الكارثية لتنظيمي «القاعدة» و«الدولة الإسلامية»، بدءاً من الانفصال عن هذين التنظيمين، والدعوة ضمن الحاضنة الاجتماعية (نصرة أهل الشام)، ومن ثم التركيز على الطابع الوطنيّ الذي يحارب نظاما تحوّل مكروها داخليا وخارجيا، ليقود بذلك عملية استغرقت 21 عاماً لإسقاط النظام، في لحظة تمثّل ذروة لتجسد «مكر التاريخ»، عبارة الفيلسوف الألماني هيغل المعروفة.
يسمح الانقلاب «الشاميّ» الكبير بتقديم خلاصة تاريخية تربط صعود السلفيّة المتشددة بالأزمات التاريخية والفكرية الكبرى مثل اجتياح المغول للعالم الإسلامي وهو ما يفسّر ظاهرة ابن تيمية؛ والمعارك التي شنّها السعوديون ضد العثمانيين في الجزيرة العربية وما رافقها من صعود السلفية الوهابية؛ مرورا بالصراع بظاهرة سيد قطب والجهاديات السلفية اللاحقة، وصولاً إلى مرحلة التسعينيات شديدة الاضطراب في المنطقة العربية – الإسلامية، مع حرب أفغانستان، حرب الكويت، تفجيرات نيويورك والاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، ولكننا لو رسمنا هذه المراحل على شكل «انفوغراف» تاريخي فسنرى أن فترات الصعود الحربية للسلفية ستتلوها فترات تراجع طويل لصالح الأشكال التقليدية من الإسلام العلمائي والتصوّفي، يمكن ان يمتد لقرون.
في الحاجة إلى مقاربات جديدة
قد تفيد، لإغناء هذه الخلاصة واقعياً، قراءة علاقة بين تنظيمات الجهادية المسلّحة التي ظهرت في تسعينيات القرن الماضي، مع تنظيمات العنف الثوري الإرهابي، الذي مثّله تنظيم «فتح – المجلس الثوري» وزعيمه صبري البنا (أبو نضال)، ذي التوجّه القومي – الوطني وقائد عمليات الاغتيال الدولية والمسؤول عن مجازر بحق مئات الفلسطينيين!
قد تفيد أيضاً إعادة ربط بدايات حالتي العنف الإرهابيّ، على طريقة أبو نضال، وتنظيمات الجهادية السلفية، بالظروف السياسية العربية التي أسهمت في ظهورهما، الأول من خلال ارتباطه بتعقيدات الصراع الإسرائيلي – العربيّ، والعربيّ - العربيّ، والثاني بالصراع الغربي – السوفييتي في أفغانستان، ووجود القوات الغربية في الجزيرة العربية خلال حرب الخليج الأولى (تحرير الكويت)، وصولاً إلى نهاياتها المفاجئة في سوريا عبر الانقلاب الذي نفّذه الشرع و«الهيئة» في انتظامه المحاور العربية والإقليمية والدولية.
قد يفيد أيضاً تحليل علاقات السياسة بالاجتماع والجغرافيا وعلم النفس عند ملاحظة التناظرات الغريبة بين صبري البنّا وأسامة بن لادن، مثل أن كلاهما جاء من عائلات شديدة الثراء، وأن والدتيهما كانتا سوريتان، كما تستحقّ حالتا البنّا وبن لادن استقراء تبادلات فكرية واجتماعية وجغرافية أخرى قد تبدو غريبة، من قبيل أن جهيمان العتيبي، قائد عملية احتلال الحرم المكي تأثّر بشيخ السلفية السوري الشهير، محمد ناصر الألباني، وأن أحمد الشرع، الرئيس السوري، ولد في الرياض، عاصمة السعودية، وأن اعتدال المدرسة الشاميّة ناظره، اعتدال متزايد في السلفية النجدية، التي كان دورها مؤثراً على نظيراتها العربيات.