الإخوان: من «اشتراكية الإسلام» إلى «العيش المشترك»!
28. نوفمبر 2025
خلال تسجيل أغنية «وُلِدَ الهدى»، التي ألقتها المطربة أم كلثوم في احتفال المولد النبوي في حديقة «النادي الأهلي» في القاهرة (تشرين ثاني/ نوفمبر عام 1949)، جرت حادثة مثيرة روى الموسيقي رياض السنباطي وقائعها بعد 14 عاماً من حصولها.
تفاجأت المطربة بمبعوث من القصر الملكي يعترض على غنائها بيت شعر من قصيدة كتبها أحمد شوقي في مدح الرسول محمد قال فيها:
الاشتراكيون أنت إمامهم
لولا دعاوى القوم والغلواء
وبحسب القصة فإن حاكم مصر حينها، الملك فاروق الأول، اعتبر نسبة الاشتراكية للنبي دعماً لتيار سياسي يكرهه.
بعدها بسنوات، وفي كتابه «اشتراكية الإسلام»، قدّم مصطفى السباعي (1915 – 1964)، مؤسس «حركة الإخوان المسلمين» في سوريا، تطويراً كبيراً على فكرة «أمير الشعراء».
من «إنقاذ فلسطين» إلى الانقلابات
يقول السباعي في مقدمة كتابه إنه «كانت مهمة الأنبياء والمصلحين على اختلاف أزمانهم هي الدعوة إلى إنصاف البائسين ورحمة الفقراء ورفع الظلم الاجتماعي عنهم». واضح أن هذا التوجّه كان يحاول موازنة الاتجاهات القومية واليسارية التي انتشرت بقوة بين السوريين، وهو ما نلمسه بسعيه لدحض فكرة أن الاشتراكية «موضة» ذاك العصر بتأكيده على أنها «نزعة إنسانية» تسعى شعوب العالم الحاضر إلى تحقيقها «لتتخلص من فواجع الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي الفاحش المُزري بكرامة الإنسان».
كان ذلك اجتهاداً متقدّماً للإخوان ومحاولة مهمة للإجابة على إشكاليات الواقع الذي تأسست عليه دولة ما بعد الاستقلال عن فرنسا، والتي واجهت قضيتين خارجيتين ستؤدي تفاعلاتهما مع العناصر الداخلية إلى ظهور أعطاب خطيرة فيها بسرعة.
ظهرت القضية الأولى مبكراً مع إعلان الأمم المتحدة في 30 تشرين ثاني/ نوفمبر 1947 تقسيم دولة الانتداب البريطاني إلى دولتين فلسطينية ويهودية، مما اضطر الدولة السورية الناشئة لإرسال قوات (وهو ما فعلته مصر والأردن والعراق) ضمن ما سمّي «جيش الإنقاذ العربي» إثر تأسيس إسرائيل في أيار/ مايو 1948.
وظهرت القضية الثانية عبر نشاطات السفارات والمخابرات الأجنبية للتأثير على مجرى الأحداث، مما ساهم في بدء الانقلابات العسكرية في سوريا (والعالم العربي)، بدءاً من انقلاب حسني الزعيم في آذار / مارس 1949 الذي فتح الباب لتسعة عشر انقلاباً لاحقاً.
شكّل ظهور الاتحاد السوفييتي حافزاً كبيراً للمجتمعات الوطنية الخارجة من الاستعمار، كما مثّل الأسّ المكين للمقاربة والتعديل على فكرة «تطبيق الاشتراكية»، وهو أمر نجده لدى السباعي، ولدى إسلاميين آخرين أبرزهم سيد قطب. يقول السباعي: «كنت ممن ينادون منذ عام 1948 على الأقل بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي في الميادين السياسية والاقتصادية كوسيلة من وسائل الانتصار في معركتنا ضد الاستعمار الغربي، على أن نحتفظ بعقائدنا وحيادنا».
«مجتمع اشتراكي يتجاوب مع عقائدنا»
كان الكتاب أيضاً استجابة ذكية للتعاطي مع الصراعات الناشبة على مسائل السلطة والثروة والثقافة، فما دام الناس، كما يقول السباعي، «يتهافتون على المذاهب الاشتراكية المعروفة، اعتقاداً منهم بأنها هي الطريقة الوحيدة لتحقيقه، أفلا يجب علينا أن ندلهم على «طريق آخر» لا يعرفونه لتحقيق ذلك الهدف العظيم؟»، باعتماده مبادئ الاشتراكية والإسلام معاً، يخلص السباعي إلى بناء «أساس صالح متين لإقامة مجتمع اشتراكي في بلادنا تتجاوب الأمة في مشاعرها وعقائدها مع قوانينه ونظمه».
وبعدها بعقود عدة، حملت «وثيقة العيش المشترك في سوريا» التي أصدرتها جماعة الإخوان المسلمين في 18 تشرين أول/ أكتوبر الماضي، تذكيراً بالجذر اللغوي الذي نُحتت منه كلمة الاشتراكية، ولكن بعد تعديل عمليّ يعبّر، ببلاغة تختصر «مكر التاريخ»، عن الحاجة الماثلة حالياً للتعايش بين «السوريين الأعداء» (عنوان رواية شهيرة لفواز حداد) بعد الكوارث التي جرت في بلادهم تحت مسمى الاشتراكية، التي كانت أكثر أقانيم «البعث» الثلاثة (إضافة إلى الوحدة والحرية) بؤساً في الاستخدام، وأداة للقمع، ووسيلة لمصادرة الاقتصاد الوطني، ومن ثم الاجتماع والسياسة والمجال العام.
يتكرر في الوثيقة الحديث عن التراضي والتطاوع على مشتركات، و«إيجاد تفاهم مشترك» و«اختيار مواد التعليم البانية للقيم المشتركة»، و«إطلاق مبادرات لتعزيز تفاهم مشترك». غير أن أميز ما ورد فيها كان دعوتها إلى دولة ديمقراطية، تقوم على التعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، ومبدأ المواطنة، وسيادة القانون، وفصل السلطات، وصيانة حرية الاعتقاد، وكفالة القانون للحرية الدينية للجميع، والتمكين المشروع للمرأة ورفض تهميش دورها، الخ.
استجابتان لأزمة وجودية
كزعيم سياسي، وكمنظّر، اجتهد السباعي في «اشتراكية الإسلام»، على بناء أطروحة تناسب حيثّيات عصره: الاستقلال، الصراع مع آثار الاستعمار، وظهور الاتحاد السوفييتي، وتأسيس إسرائيل، وازدهار الحركات اليسارية، مقدّما في تلك الأطروحة أجوبة توائم بين واقع السوريين وثقافتهم الإسلامية، والتي اعتبر محاربتها خطيئة لدى الشيوعيين، ونقيصة في المجتمعات الغربية.
وبتبنيها للأسس الديمقراطية للدولة الحديثة: تداول السلطة، وتشكيل الأحزاب، وسيادة القانون، وفصل السلطات، وحرية التعبير الخ، تقوم «وثيقة العيش المشترك» بدورها، بتقديم استجابتها لهذا العصر، وإجابتها، في الوقت نفسه، على القضايا الملحّة الطارئة في سوريا.
بين الدعوة إلى اشتراكية الإسلام، وطرح مبادئ العيش المشترك بين السوريين، تبرز التحوّلات الهائلة التي جرت بين دعوة تنظر إلى مجتمع عربي - إسلاميّ في حالة نهوض، وأخرى تبني على تجربتها المأساوية كجماعة، وعلى التجربة الملحمية للسوريين الذين دخلوا هوة تغوّل استبدادي حطّمتهم اجتماعاً واقتصاداً وثقافة.
يعبر هذا التغيّر الفكري أيضاً عن الإشكاليات السياسية الهائلة التي يواجهها السوريون حالياً، وتواجهها دولة في طور التأسيس الثاني لسوريا، تتعرض فيها المسألة الوطنية إلى تهديد وجودي، بعد أحداث الساحل والسويداء الدموية، وفي ظل سيطرة قوات قسد على مناطق واسعة من شمال شرق سوريا، وخطر المخططات والتوغّلات الإسرائيلية اليومية بالتضافر مع نشوء كيان يجد في فكرة الاحتماء بالدولة العبرية حلاً أمنياً (وثقافياً) للعلاقة الإشكالية مع دولة ذات طابع إسلامي.