الكرد والدولة السورية الجديدة: اندماج أم صدام؟
3. ديسمبر 2025
مع سقوط نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع إلى السلطة أواخر 2024، فُتِحت صفحة جديدة في تاريخ سوريا السياسي، لكن صفحة أخرى قديمة عادت لتفرض نفسها بقوة: المسألة الكردية. فالكُرد، الذين شكّلوا تاريخياً ثاني أكبر قومية في البلاد، وشاركوا بفعالية في هزيمة تنظيم داعش وإدارة جزء واسع من شمال وشرق سوريا، يجدون أنفسهم اليوم أمام سؤال مصيري: بأي شروط يمكنهم الاندماج في الدولة السورية الجديدة؟
بين اندماج رمزي ووظيفي
الحكومة الانتقالية في دمشق ترفع خطاباً براغماتياً، وتتحدث عن دولة لكل السوريين، لكنها لا تزال أسيرة عقلية مركزية تقلق من أي صيغة حقيقية للحكم اللامركزي. نفوذ أنقرة، التي أسهمت في صعود الشرع، يزيد حساسية الملف، ويُضيّق هامش المناورة أمام دمشق في الاستجابة للمطالب الكردية، رغم أن الكُرد لا ينازعون الرئيس الجديد على السلطة، ولا يعرقلون مسعاه لنيل الشرعية الغربية، ولا يشكلون تهديداً أمنياً على غرار الفصائل الإسلامية المتشددة.
في هذا المشهد المتشابك، تتحرك ثلاثة مستويات كردية: الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، المجلس الوطني الكردي، ثم المزاج الشعبي الكردي الذي بات أكثر واقعية من نُخَبه السياسية.
الإدارة الذاتية وقسد لا تتحدثان عن «اندماج رمزي» داخل الدولة الجديدة، بل عن «اندماج وظيفي» يحافظ على المؤسسات التي نشأت خلال العقد الماضي. ما تطرحه هذه القوى ليس مجرد اعتراف ثقافي باللغة الكردية، بل تثبيت دستوري واضح لوجود الشعب الكردي وحقه في إدارة شؤونه عبر مؤسسات منتخبة، مع صلاحيات تشريعية وتنفيذية حقيقية في إقليم شمال وشرق سوريا، ونظام تعليمي متعدّد اللغات، وتقاسُم عادل للثروات، خصوصاً النفط والغاز.
في البعد الأمني، ترى قسد أن خبرتها في مكافحة الإرهاب ليست مجرد «تفصيل عسكري»، بل أحد أعمدة الاستقرار في الشمال الشرقي. لذلك تطرح صيغة «دمج منضبط» في الجيش السوري الجديد: وحدات متخصصة تبقى قائمة، ضمانات تمنع تفكيك البنية الأمنية الحالية، وآليات مشتركة للعمل في المناطق الحساسة. من منظورها، هذه ليست شروطاً تعجيزية، بل ثمن الحد الأدنى لاستمرار الاستقرار.
على الضفة الأخرى، يتحرك المجلس الوطني الكردي برؤية قومية تطالب بحكم ذاتي للمناطق ذات الغالبية الكردية، واعتراف دستوري بالكُرد كقومية مؤسسة للدولة، وكوتا تمثيلية في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وضمان حماية اللغة والتراث الكرديين. غير أن ارتباطه الطويل بمؤسسات المعارضة التقليدية، وعلى رأسها الائتلاف الوطني، أضعف صدقيته شعبياً؛ إذ بدا عاجزاً عن مواجهة انتهاكات الفصائل المدعومة تركياً في عفرين ورأس العين، بل حتى عن فتح مكاتبه هناك.
ومع خروج الائتلاف من المشهد الفعلي، وبقاء التفاهمات الأولى بين دمشق وقسد من دون حضوره، وجد المجلس نفسه مضطراً لإعادة التموضع: عودة إلى «الحاضنة الكردية»، ومحاولة إحياء مسار التفاهم مع الإدارة الذاتية، والسعي إلى بلورة وفد كردي موحّد في مواجهة دمشق الجديدة.
أما الشارع الكردي نفسه، فقد خرج من عقد الحرب والصراع أقلّ حماسة للشعارات وأكثر تشبثاً بالضمانات الملموسة. ثلاثية واضحة باتت تحكم نظرته للمستقبل: الأمن قبل السياسة، الاستقرار الاقتصادي قبل الشعارات الكبرى، والضمانات الدستورية قبل الوعود المتبدلة.
تجربة الآمال الفيدرالية بين 2014 و2018، ثم الضربات التركية والحدود المغلقة والأزمة الاقتصادية وتذبذب الالتزام الأمريكي، كلها راكمت قناعة لدى شرائح واسعة من الكُرد بأن سقف المطالب يجب أن يكون قابلاً للحياة، لكنه في الوقت نفسه غير قابل للمساومة في ما يتعلق بالهوية والحقوق الأساسية: الاعتراف الدستوري، التعليم باللغة الأم، لامركزية سياسية واضحة، واستمرار مؤسسات الأمن المحلي، واندماج تدريجي ومنضبط لقسد ضمن الجيش الجديد.
سيناريوهات ثلاثة
أمام هذا المشهد، تتبلور مجموعة من السيناريوهات لعلاقة الكُرد مع دمشق:
السيناريو الأفضل من منظور كردي هو لامركزية سياسية موسّعة مع اعتراف دستوري صريح بالهوية الكردية، وصلاحيات تشريعية وتنفيذية حقيقية لمناطق شمال وشرق سوريا، ودمج منظم لقسد يحافظ على وحدات مكافحة الإرهاب ويمنع عودة القبضة الأمنية المركزية.
السيناريو «الناقص» هو الاكتفاء بلامركزية إدارية خدمية، تُدمج فيها مؤسسات الإدارة الذاتية ضمن قانون الإدارة المحلية من دون ضمانات دستورية أو استقلالية أمنية، مع دمج كامل لقسد داخل وزارتي الدفاع والداخلية. هذا النموذج قد يريح دمشق وأنقرة، لكنه يحمل في داخله بذور انفجار مستقبلي، لأنه يعيد إنتاج منطق «إدارة الملف الكردي أمنياً» مع تحسين في اللغة لا في الجوهر.
السيناريو الأخطر يتمثل في صدام عسكري مؤجَّل، قد ينجم عن احتكاكات في منبج أو دير الزور أو محيط حلب، وسط ضغط تركي مستمر وتراجع في الحماية الدولية لمناطق الإدارة الذاتية، وحضور فصائل غير منضبطة. أي انزلاق كهذا سيطيح بمسار الاندماج ويعيد المنطقة إلى دائرة نزوح وفوضى جديدة.
يبقى أيضاً احتمال «تدويل الملف الكردي» على طريقة نموذج البيشمركة في العراق: بقاء قسد قوة محلية شبه مستقلة تحت مظلة دعم أمريكي – أوروبي، من دون اندماج فعلي في الجيش السوري. لكن هذا السيناريو يصطدم بغياب إطار قانوني دولي واضح، ورفض تركي قاطع، ما يجعله أقرب إلى إدارة أزمة طويلة الأمد منه إلى حل مستقر.
الكرة في ملعب دمشق
في النهاية، تبدو الكرة اليوم في ملعب دمشق الجديدة بقدر ما هي في ملعب القوى الكردية. فالتشبث بمركزية تقليدية وتجاهل التحول العميق في المزاج الكردي لن يؤدي إلا إلى ترحيل الأزمة إلى المستقبل، وربما إلى جولة جديدة من الصراع. في المقابل، يدرك الكُرد أن أقصى الطموحات القومية لم تعد واقعية في ظل الموازين الإقليمية والدولية الحالية، وأن الرهان الأكثر عقلانية هو على شراكة متوازنة داخل دولة واحدة، لا على مشروع انفصال أو مواجهة مفتوحة.
الرسالة الأوضح التي يبعث بها الموقف الكردي اليوم إلى دمشق والعواصم الإقليمية هي أن استقرار سوريا لن يمر فوق رؤوس الكُرد، بل عبر إدماجهم العادل في بنية الدولة الجديدة: اعتراف دستوري، لامركزية سياسية، وتقاسم منصف للثروة والسلطة. ما دون ذلك، لن يكون سوى إعادة إنتاج لنسخة من الماضي، في بلد لم يعد يحتمل تكرار مآسيه.