© syriaintransition.com

Cover image
العدالة والحقوق والمجتمع المدني

من إرث الحرب إلى دولة مؤسسات

إعادة تعريف دور المنظمات غير الحكومية في سوريا الجديدة

ديسمبر 2025

أدّت المنظمات الإنسانية غير الحكومية في سوريا خلال سنوات الحرب دوراً فاعلاً لا غنى عنه على مستوى الحوكمة. ومع رحيل الأسد، تجد الدولة الجديدة نفسها أمام استحقاق مؤسّسي مُعَقّد على غرار برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. فكيف يمكن تقليص حجم هذه المنظمات أو إعادة هيكلتها أو دمجها ضمن مؤسسات الدولة من دون زعزعة تدفقات المساعدات الهشّة أصلاً؟

حوّل عقد من الصراع الكثير من المنظمات السورية غير الحكومية إلى مؤسسات شبه دولتية. فقد تولّت تقديم الخدمات الأساسية، وبنت هياكل إدارية متقدّمة، وطوّرت اقتصادات سياسية خاصة بها، وحافظت على داعمين خارجيين، وعملت ضمن نطاقات جغرافية تشبه دوائر نفوذ مستقلة. ومن الناحية المؤسسية، لا الأخلاقية ولا القانونية، باتت هذه المنظمات تؤدّي أدواراً أقرب ما تكون إلى أدوار الفصائل المسلّحة؛ إذ رَسَّخَ الطرفان أنماط عمل وشبكات نفوذ وأدواراً إدارية ارتبطت بهياكل الحكم المحلّي. وقد كرّست هذه الترتيبات أنماط تشغيل غدا من الصعب التراجع عنها. ولا شكّ في أنّ الانتقال إلى مؤسسات دولة رسمية أمرٌ لا بدّ منه، بيد أنّ تفكيك هذه المنظمات بصورة مفاجئة سيؤدّي إلى زعزعة المنظومات والآليات التي تشكّلت حولها.

أصبحت منظمات الإغاثة أيضاً جزءاً من اقتصاد الحرب. فقد أسهمت المساعدات في إبقاء قطاعات كاملة قائمة، مثل النقل والمشتريات واللوجستيات والإدارة. وساعدت على استمرار القدرة على العيش في مراكز التجمع السكاني، بما أتاح لأطراف الصراع الحفاظ على سيطرتها على الأراضي. في المقابل، استغلّ نظام الأسد هذه المساعدات وأساء استخدامها على أوسع نطاق، عبر قنوات الأمم المتحدة، إلى جانب التلاعب بسعر الصرف، وفرض قواعد تقييدية على الوصول، وإجراءات التدقيق الأمني؛ وذلك لترسيخ شبكات الزبائنية ومعاقبة الخصوم المفترضين.

وطوّرت سلطات الأمر الواقع الأخرى نماذجها الخاصة على هذا النسق. ففي إدلب، على سبيل المثال، اعتمدت إدارة هيئة تحرير الشام بدرجة كبيرة على منظمات الإغاثة في تشغيل قطاعي الصحة والتعليم، ما أتاح لها توجيه مواردها نحو الأجهزة الأمنية والبُنى العسكرية. ووَلَّدَت تصاريح الدخول، ورسوم الحماية، والضرائب غير الرسمية، موارد مالية إضافية للجهات الفاعلة المسلّحة والسلطات السياسية في مختلف مناطق السيطرة.

وعبر مختلف مناطق سوريا، تسلّلت عقود من الممارسات الفاسدة المتجذّرة إلى المجال الإنساني، لتزوّد أصحاب النفوذ المحلّيين بأدواتٍ تمكّنهم من مكافأة المقرّبين، وتهميش المنتقدين، وانتزاع قدرٍ من الشرعية السياسية بكلفةٍ شبه معدومة.

منظومة إنسانية ذات مركز ثقل مستقلّ

أصبحت قدرات منظومة المساعدات اليوم تضاهي قدرات الدولة السورية الناشئة. وإذا كن لسوريا أن ترسّخ استقرارها السياسي، فلا بدّ من إعادة تصميم هذه المنظومة، لا مجرّد تقليص حجمها. فكما تحتاج المجموعات المسلّحة إلى برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، تحتاج المنظمات غير الحكومية بدورها إلى برنامج مؤسّسي يحدّد موقعها ومكانتها داخل دولة تعمل بصورة طبيعية. 

وفي أي كيان سياسي متماسك، ينبغي أن تكون محاسبة المجتمع المدني أمام المؤسسات الوطنية والمواطنين أولاً، لا أمام نُخَب منظمات غير حكومية نصّبت نفسها، أو أمام جهات مانحة خارجية. والدروس المستخلصة من السنوات الخمس عشرة الماضية واضحة: تقديم الخدمات بلا منظومة مبادئ يرسّخ هرميةً لا تخضع للمساءلة. وعليه، يجب أن تصبح شفافية المساعدات، وجودة تقديم الخدمات، والعدالة في توزيعها، ركائز بنيويةً في هذه المنظومة.

شروط هذا الانتقال لا تزال غير مثالية. نجاح أي برنامج دمج خاص بالمنظمات غير الحكومية يتطلّب مساراً واضحاً لإنهاء الأعمال القتالية، وحكومة شرعية قادرة على إعادة بناء المؤسسات وترميم النسيج الاجتماعي. وسوريا اليوم لا تستوفي أياً من هذين الشرطين. وعلاوة على ذلك، فقد أفرز أكثر من عقد من العمل في بيئة غير مستقرة ووفق قواعد حالات الطوارئ عاداتٍ وممارساتٍ يصعب التراجع عنها أو تفكيكها بسهولة.

الخوذ البيضاء: حالة استثنائية

من بين جميع المنظمات، لم تُدمج في الدولة الجديدة بسرعة سوى منظمة واحدة: الدفاع المدني السوري أو «الخوذ البيضاء». فقد لبّى استيعابها احتياجات سياسية ورمزية في آن معاً؛ إذ جلبت معها حضوراً دولياً لافتاً ورصيداً سياسياً معتبراً، كما جعل أسطول مركباتها وأنظمتها اللوجستية وكوادرها المدرَّبة منها مكسباً فورياً للدولة. وكان ميثاق تأسيسها ينصّ على إنهاء عملياتها عند قيام حكومة شرعية، وقد صوّت أعضاؤها في جمعيتهم العامة بدمشق في حزيران/ يونيو على أنّ هذا الشرط قد تحقّق. 

وكافأت الحكومة هذه الخطوة من خلال منحها صفة قانونية رسمية، وتعيين قائدها رائد الصالح وزيراً لإدارة الكوارث والطوارئ. غير أنّ عملية الدمج هذه جاءت بكلفةٍ لا يُستهان بها. ففي بيانها الرسمي، أعلنت المنظّمة أنّ ملفاتها المتعلّقة بالعدالة والمساءلة وحملات المناصرة ستُنقل إلى الوزارات والهيئات العامة المختصّة. غير أنّه، وإن كان من الممكن إحالة تقديم الخدمات إلى المؤسسات الحكومية، فإنّ أدوار الرقابة والمساءلة تحتاج بطبيعتها إلى قدر من الاستقلالية المؤسسية. وإدراكاً منها لهذه الحقيقة، تعتزم منظمة الخوذ البيضاء مواصلة عملها في مجال العدالة الانتقالية عبر كيان مستقل جديد يحمل اسم «حُرّاس الحقيقة»، منبثق عن مؤسستها المسجّلة في هولندا، ومسجّل كذلك في سوريا. ويبقى السؤال المطروح: هل سيكون بالإمكان الحفاظ عملياً على هذه المسافة الفاصلة عن الحكومة؟ ذلك ما سيكشفه المستقبل.

تُؤكّد تجربة الخوذ البيضاء المخاطر الكامنة في الافتراض بأنّ على كلّ منظمة غير حكومية أن تنصهر بسلاسة داخل البُنى الحكومية

تُؤكّد تجربة الخوذ البيضاء المخاطر الكامنة في الافتراض بأنّ على كلّ منظمة غير حكومية أن تنصهر بسلاسة داخل البُنى الحكومية. فيحتاج أي حيّز مدنيّ صحّي إلى رقابة مستقلّة، ورصدٍ منهجيٍّ لأوضاع الحقوق، وقدرةٍ فعلية على مساءلة السلطة والطعن في قراراتها؛ وهي أدوار لا يمكن لأي حكومة أن تنهض بها منفردةً بشكلٍ مقنع. 

في الحقيقة، لم تَحظَ أي منظمة غير حكومية أخرى بما يقارب حجم الاهتمام الذي نالته منظمة الخوذ البيضاء، كما أنّ كثيراً من هذه المنظمات لا يُبدي في الأصل رغبةً في اتّباع مسارها. ولا يزال تشكيك المنظمات غير الحكومية في الحكومة الجديدة عميقاً، بدرجة أكبر لدى تلك العاملة في الشمال الشرقي، الذي يتوقّف مستقبلها على العلاقة، غير المحسومة بعد، بين دمشق والإدارة الذاتية. 

غير أنّ المجتمع المدني ليس كتلة متجانسة. فبينما تسعى منظمات كثيرة إلى نسج روابط براغماتية مع الوزارات للحفاظ على أعمالها، يظهر بعض رموز منظمات المجتمع المدني اليوم بفخر إلى جانب الرئيس الشرع، معلنين على الملأ علاقاتٍ قديمة كانت بمثابة أسرار معروفة: إذ عملت منظمات متعدّدة في الشمال الغربي في انسجام وثيق مع هيئة تحرير الشام، وحملت جزءاً من خطابها، وساعدت في تشكيل السرديات الموجّهة للمانحين، ووجّهت الأموال إلى إدلب. وفي المقابل، تدور أطراف أخرى في فلك الوزارات في دمشق، على أمل الحصول على مناصب مرموقة داخل الحكومة.

الوسطاء الدوليون والمصالح الخاصة

استفادت المنظمات الدولية غير الحكومية من المنظومة التي تبلورت بعد انسحاب الدولة الأسدية من مناطق واسعة خلال سنوات الحرب، ومن اعتماد النظام على المساعدات الدولية في المناطق التي واصل السيطرة عليها. فقد تحوّلت هذه المنظمات إلى «وسطاء» مكلفين، يقدّمون للحكومات المانحة أُطُر الامتثال القانونية والمؤسسية، والجدارة البيروقراطية اللازمة لتبرير التمويل. وكانت التدفقات المالية إلى سوريا تمرّ بمعظمها عبر صناديق التمويل المشتركة التابعة للأمم المتحدة، ثم عبر المنظمات الدولية غير الحكومية، قبل أن تصل إلى شركائها من المنظمات السورية، ومن ثم أخيراً إلى المواطنين السوريين المحتاجين. وكانت وكالات الأمم المتحدة تنعم بنفوذ استثنائي؛ إذ تولّت صياغة آليات التنسيق، وتقييم الاحتياجات، وتحديد الأولويات، وتوزيع أموال المساعدات الإنسانية والتعافي المبكر. كما أنّ مساحة تحركها الضيّقة، وأحياناً أجنداتها السياسية المموّهة بالكاد، نادراً ما وُوجهت بتحدٍّ جدّي، إلى حدّ بات فيه دعم مسار تطبيع العلاقات مع الأسد يُقدَّم على أنه نوع من «الواقعية الإنسانية». وليس مستغرباً، في ضوء ذلك، ألّا تُبدي الحكومة الجديدة حماسةً تُذكر للتعامل مع الأمم المتحدة.

تسعى وكالات الأمم المتحدة إلى استمالة إدارة الشرع لضمان الوصول، لكنّها تظلّ أسيرة التنافسات الداخلية داخل منظومة الأمم المتحدة، ومنطق السوق الأوسع الذي شوّه النظام الإنساني طويلاً. وقد وقّع بعض هذه الوكالات، وبينها اليونيسف (UNICEF) وصندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، اتفاقات تمويل مع وزارات حكومية، كانت لتُعدّ سياسياً أمراً غير متصوَّر في عهد الأسد. ولا يزال التمويل يتجنّب حتى الآن دعم الموازنة العامة بشكل مباشر، لكنه يدخل إلى الوزارات عبر قنوات الأمم المتحدة، في إشارة إلى أن الخطوط الحمر السابقة يجري التراجع عنها بهدوء.

ستبيع الأمم المتحدة روحها من أجل حماية وجودها المتضخّم في سوريا

— مسؤول سابق في الأمم المتحدة

أمّا ما إذا كان هذا التحوّل يجري بما يتماشى مع المبادئ الإنسانية، فتلك هي مسألة أخرى تماماً. يقول مسؤول سابق في الأمم المتحدة لمجلة سوريا المتجدّدة: «لا أعتقد أنّ هناك خطوطاً حمراء بعد الآن. ستبيع الأمم المتحدة روحها من أجل حماية وجودها المتضخّم في سوريا، إذ لا شيء يرعبها أكثر من عالمٍ يجب أن تُكتسَب فيه العقود والرواتب المرفّهة بالاستحقاق، بدلاً من الاكتفاء بالدفاع عنها».

تتشبّث المنظمات السورية غير الحكومية بالنفوذ الذي راكمته خلال سنوات الحرب، فيما تمنحها الرواتب الدولية حوافز قوية للإبقاء على الوضع القائم. وقد عزّز المانحون الغربيون هذه الدينامية لسنوات، إذ قدّموا هذه المنظمات بوصفها «العمود الفقري للمجتمع» و«الصوت الأخلاقي لسوريا»؛ وهو ثناءٌ عزّز ثقتها بنفسها، لكنه غذّى أيضاً شعوراً متضخّماً بمركزيّتها، وتردّداً في التنازل عن مساحة الدور ضمن منظومة يُعاد تشكيلها. في المقابل، لا تسيطر الحكومة بعد على مساحات واسعة في الشمال الشرقي والجنوب. والصراع على إعادة دمج هذه المناطق يمنح دمشق دوافع إضافية لاستخدام المساعدات أداةً للضغط، كما ظهر في السويداء.

وخلاصة القول، أن المنظمات الدولية غير الحكومية، ووكالات الأمم المتحدة، والجهات المانحة تدافع في الغالب عن الترتيبات القائمة لأنها تحافظ على نفوذها وبُناها البيروقراطية وميزانياتها. في المقابل، تسعى الحكومة إلى أن تمرّ كل المساعدات عبر مؤسساتها حصراً.

المساءلة والشرعية وطبيعة الحيّز المدني

ما يغيب تماماً هو نقاش صريح ومنهجي حول مستقبل هذا القطاع، يُفضي إلى بلورة رؤية مشتركة بين المانحين والمنظمات الدولية غير الحكومية ونظيراتها السورية، والحكومة، تُحدَّد فيها الأدوار والمسؤوليات وأساليب العمل.

يجب أن تكون المساءلة في صلب هذا النقاش. فالمنظمات الدولية غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة، التي ينبغي تحليل وتحديد القيمة المضافة التي تقدّمها في سوريا بقدرٍ أكبر من الوضوح، بحاجة إلى قدرٍ أقوى من الخضوع للمساءلة أمام السوريين، ولاحقاً أمام مؤسسات الدولة. ويشكّل الانسحاب الأخير لمنظمة «قرى الأطفال» (SOS) من البلاد، بعد التحقيقات التي كشفت تورّطها في شبكات خطف مرتبطة بالنظام، تذكيراً صارخاً بأنّ المنظمات الدولية غير الحكومية ليست صمامات أمان مضمونة تلقائياً. مع ذلك، لا يمكن للهيئات الوطنية أن ترث السلطة بحكم الأمر الواقع لمجرّد وجودها. فقد وُرِّطت القيادة السابقة للهلال الأحمر العربي السوري ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في عمليات تلاعب النظام بالمساعدات، ويُفترض بهما أولاً الإقرار بهذا السجل، ثمّ الشروع في إصلاحات حقيقية ذات مغزى، إذا كانتا تطمحان إلى نيل ثقة الرأي العام والجهات الدولية.

تحتاج أدوار المناصرة ورصد أوضاع الحقوق والمسائلة العامة إلى حماية من التحوّل إلى شكل جديد من «الاستثمار» أو المشاريع الربحية

في الوقت نفسه، ينبغي التعامل بحذر مع نقل المسؤولية من المنظمات الدولية غير الحكومية إلى المنظمات السورية على أنّه العلاج الشافي الواضح والبديهي. فقد حذّر منسّقٌ إنساني سوري قائلاً: «بصراحة، نصحتُ بعدم الدفع في هذا الاتجاه، حتى عندما تكون النوايا حسنة، لأن حجم الفساد في صفوف المنظمات السورية مبالغ فيه إلى حدّ فاحش». ولكي تتمكّن المنظمات السورية غير الحكومية من نقل مرجعية المساءلة من المانحين إلى دولةٍ وطنية، لا بدّ لهذه الدولة أن تكتسب أولاً شرعيةً حقيقية وقدرةً مؤسسية. وقد تولّى المانحون هذا الدور في السابق لغياب دولةٍ ذات مصداقية. أمّا اليوم، ومع تبدّل المشهد السياسي، فتبرز على الأقل فرصة لإعادة بناء الشرعية، وينبغي، من حيث المبدأ، أن تعود المساءلة إلى الداخل إذا ترسّخ هذا المسار. ويمكن أن يشكّل الانخراط الصريح مع أسئلة الشرعية جزءاً من حوارٍ وطني وعملية مصالحة، وربما، للمرة الأولى، تطبيقاً ذا مغزى لمبدأ «ترابط العمل الإنساني والتنمية والسلام» أو ما يسمى Triple Nexus approach.

طوال سنوات الحرب، كان «الحيّز المدني» يُعرَّف بمدى ابتعاده عن الدولة، وغالباً ما اعتُبر هذا الابتعاد علامةً على المقاومة. أمّا في المرحلة الجديدة، فهو بحاجة إلى هيكلية أوضح. فخدمات الرعاية، من الصحة إلى التعليم والاستجابة للطوارئ، ينبغي أن تُدمج ضمن مؤسسات عامة خاضعة للمساءلة مع مرور الوقت. في المقابل، يجب أن تبقى أدوار المناصرة ورصد أوضاع الحقوق والمساءلة العامة مستقلّة ومرتكزة إلى القانون. كما تحتاج هذه الأدوار إلى حماية من التحوّل إلى شكل جديد من «الاستثمار» أو المشاريع الربحية؛ فقد أصبح عددٌ من المنظمات غير الحكومية تقدّم نفسها اليوم كأدوات لـ«بناء الدولة» من أجل تأمين التمويل، فيما تستخدم هيئات حكومية «المشاركة المدنية» كدليل على شرعيتها. وإذا ترسّخت هذه الدينامية، فإنّ الطرفين يغامران بتحويل الرقابة إلى عملية تبادلية مصلحية، بدلاً من أن تبقى أداةً لصون المصلحة العامة. لذا، ينبغي أن يكون الحيّز المدني الوطني قادراً، فعلياً، على تدقيق السلطة ومساءلتها، وفي الوقت نفسه الإسهام في صياغة السياسات، على أن يحظى بحمايةٍ تضمنها النصوص الدستورية.

على المانحين أن يتوقّفوا عن لعب الألعاب السياسية

— دبلوماسي غربي رفيع سابق

مسؤولية أوروبا غير المكتملة

للأوروبيين دور لا يمكنهم التنصّل منه. فعلى مدى أكثر من عقد، موّلوا المنظمات غير الحكومية السورية والدولية ووكالات الأمم المتحدة، ودرّبوها ومنحوها وزناً سياسياً. وهذا الإرث، إلى جانب المسؤولية المترتّبة عليهم أمام دافعي الضرائب في بلدانهم، الذين يتوقّعون أن يحقّق استمرار الانخراط الإنساني والإنمائي قيمة حقيقية لما يُنفق، يعني أن أوروبا لا تستطيع الوقوف موقف المتفرّج. وعليها أن تسهم في تيسير حوار منظّم بين قطاع المساعدات والحكومة الجديدة، وأن تدعم بلورة رؤية مشتركة وخارطة طريق عملية توفّق بين العمل الإنساني والإنمائي من جهة، ومؤسسات الدولة من جهة أخرى، باعتبار أنّ قدرة هذه المؤسسات ومهنيتها هما العلاج الوحيد طويل الأمد لدوامة الاعتماد المزمن على المساعدات.

وكما قال دبلوماسي غربي رفيع سابق لسوريا المتجدّدة: يتعيّن على المانحين أن «يتوقّفوا عن لعب الألعاب السياسية، وعن تفصيل دعمهم على مقاس مصالحهم الداخلية، التي هي بطبيعتها قصيرة الأمد وضيقة الأفق وبصراحة غير أخلاقية، أو الاكتفاء بتمارين شكلية هدفها ملء الخانات في النماذج، من دون إستراتيجية ولا قدرة على الاستمرار».

لا يمكن لسوريا أن تسمح لاقتصاد المساعدات بأن يبقى معوَّماً بلا بوصلة، ولا أن تعود في الوقت نفسه إلى ممارسات العقد الماضي، حين كانت الضرورات الإنسانية تُستخدم لحجب المسؤولية السياسية. إنّ إعادة النظر في منظومة المساعدات ليست مسألة تقنية، بل مشروعٌ سياسي جاد يشكّل ركناً أساسياً في مسار إعادة بناء بلدٍ أبقته هياكل طوارئ على قيد الحياة سنوات طويلة، على الرغم من أنّها لم تُصمّم قط لتدوم.

العودة إلى الأعلى

العدالة والحقوق والمجتمع المدني

اشترك ليصلك آخر أعداد مجلة سوريا المتجدّدة إلى بريدك الإلكتروني.

* يشير إلى الحقول المطلوبة
العربية