شباب متحمس مكافح
القوى العاملة تواجه سوقاً متهالكاً بعد عودتها إلى سوريا
ديسمبر 2025
المعرفة الإنتاجية تعيش داخل شبكات معقّدة من الشركات والمورّدين والمجتمعات المهنية. وبعد أن حطّمتها سنوات الحرب، ما زالت تلك القدرة الجماعية على الإنتاج متشقّقة ومفكّكة. ويمكن لرأس المال البشري أن ينمو من جديد، لكن ذلك مشروط ببيئة يسودها الاستقرار وتكون قواعدها واضحة. ومن ثمّ يتعيّن على الحكومة والقطاع الخاص إعادة النظر في الطريقة التي يعيدان بها بناء طاقات الموارد البشرية، كما أنّ على الجهات المانحة أن تراجع أسلوب استثمارها في هذا المجال.
بالنسبة للكثير من السوريين العائدين إلى ديارهم أو الداخلين إلى سوق العمل للمرة الأولى، لا تبدو الأمور لصالحهم. فقد طُبع الاقتصاد بطابع الندرة، إذ لا تزال معدّلات البطالة مرتفعة جداً، والشركات تعمل بطاقات محدودة، والأجور منهارة، فضلاً عن أنّ قطاعات كاملة تعتمد على معدّات تعود إلى ما قبل الحرب. تُعتمد ترتيبات غير رسمية لسدّ الفجوات الناتجة عن فشل الخدمات العامة. وتلقي هذه الضغوط بثقلها على الجميع، لكنّها تقع بأقسى صورها على الفئات المهمّشة، مثل النساء، والشباب في المناطق الريفية، والأشخاص ذوي الإعاقة. إضافة إلى التحدّيات التي يواجهها الخارجون من الفصائل المسلّحة، إذ يتعيّن عليهم التعامل مع الحساسية السياسية المحيطة بعمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج (DDR).
في سياقٍ مماثل، لا يقتصر الأمر بالنسبة إلى الشباب السوري أو المغتربين العائدين على البحث عن وظيفة فحسب؛ بل إنّهم يدخلون إلى سوق عمل يعجز، في كثير من الأحيان، عن التعرّف إلى المهارات أو مكافأتها، فضلاً عن تنميتها ورعايتها. فما زال أصحاب الأعمال بمعظمهم منشغلين بمنطق البقاء لا بمنطق التطوير، ويفضّلون أنماط العمل التي ترسّخت خلال سنوات الصراع لأنّها مألوفة وأقلّ مخاطرة، لتكوّن سوق عملٍ يعجز عن استيعاب الطاقات بالمستوى الذي تتطلّبه مرحلة التعافي، وتبقى فيه فرص التعلّم والتكيّف والتقدّم المهني نادرة ومحدودة.
تنشأ عن هذا الواقع حلقة مفرغة؛ إذ يعتمد التعافي الاقتصادي على رأس المال البشري، لكن هذا الأخير يتآكل في بيئةٍ تعجز فيها الشركات عن التوسّع، ولا يرى فيها العاملون أي آفاق حقيقية للنمو المهني. ففي الاقتصادات التي يرتفع فيها الدخل وتستقرّ فيها المؤسسات، يميل الناس إلى البقاء أو العودة، ويُراكِمون مهاراتهم مع مرور الوقت. أمّا في الاقتصادات الراكدة، فإنّهم يرحلون، أو لا يعودون إلّا لفترات مؤقّتة، الأمر الذي يؤدّي إلى تآكل القاعدة المعرفية داخل البلاد وتراجعها أكثر فأكثر.
أربع فئات من العائدين
مَن يعود إلى سوريا يحدّد بدوره ما هو ممكن وما يمكن بناؤه. فعدد محدود من الكفاءات العائدة أمضى سنوات في الخارج يطوّر مؤهّلاته، ويتعلّم تقنيات جديدة، ويعمل في أسواق تنافسية تقدّر الكفاءة والابتكار. هؤلاء هم المهندسون والأطباء والمتخصّصون في تكنولوجيا المعلومات، والفنّيون، والمدراء الذين يحملون معهم خبرات ثمينة من دول الاغتراب. لكنّهم يواجهون اليوم بيئات عمل تفتقر، في كثير من الأحيان، إلى الأنظمة والتقنيات والهياكل الإدارية الضرورية لتوظيف معارفهم بأفضل صورة ممكنة.
تتألف الفئة الأكبر من العائدين من أولئك الذين عملوا في الخارج في قطاعات البناء والزراعة والتجارة بالتجزئة وغيرها من الأعمال منخفضة المهارة. يعود هؤلاء إلى بلدٍ يتقاضون فيه أجوراً ضئيلة مقارنةً بما كانوا يتقاضونه في دول الاغتراب، وإلى سوق إيجارات تعاني ضغطاً يفوق طاقتها الاستيعابية بكثير، وإلى منافسة مع عمالٍ تكيّفوا مع شروط عمل وأجور فرضتها الأزمة.
يتأرجح أفراد فئة أخرى بين الداخل والخارج. هؤلاء العائدون المتأرجحون يحتفظون بإقامات أو وظائف في بلدان أخرى، ويعودون دورياً إلى سوريا لاستكشاف فرص عمل أو بناء شبكة علاقات مهنية. وبما أنّهم لا يعتمدون على الرواتب المحلّية في معيشتهم، يمكنهم استهداف وظائف بعينها، خصوصاً في قطاعات المصارف والاتصالات والمنظمات غير الحكومية والبرامج المموّلة من الجهات المانحة، بما يزيد حدّة المنافسة في الشريحة العليا من سوق العمل.
غير أنّ نسبة كبيرة من السوريين الأعلى تأهيلاً لا تزال خارج البلاد بالكامل. فالأطباء الذين يشغلون وظائف مستقرّة في ألمانيا أو الدول الخليجية مثلاً، والمهندسون العاملون في أوروبا، والمتخصّصون في تكنولوجيا المعلومات في الولايات المتحدة، لا يرَون مستقبلاً لهم داخل سوريا في الوقت الراهن. وغياب هؤلاء يمثّل الخسارة البنيوية الأعمق للبلاد.
وينعكس المشهد نفسه تقريباً داخل مجتمع الأعمال. فكبار المستثمرين الذين نقلوا نشاطهم إلى تركيا أو مصر أو الدول الخليجية، بدأوا يختبرون عودةً محدودة، لكن بحذرٍ شديد. أمّا روّاد الأعمال من أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة الذين أسسوا أعمالهم في الخارج، فيواجهون خياراتٍ أصعب؛ إذ تعني إعادة تموضعهم في سوريا دخول سوقٍ هشّة، وبنيةً تحتية غير موثوقة، وتشريعاتٍ ملتبسة، وظروفاً سياسية لا يمكن التنبؤ بها. فيلجأ كثيرون منهم إلى صيغٍ هجينة، أي أنّهم يبقون على نشاطهم الرئيسي خارج البلاد، بينما يقومون بخطواتٍ تجريبية صغيرة داخل سوريا. لكن حتى هذه العودة الجزئية تفرض ضغوطاً على الشركات المحلّية التي نجحت في البقاء خلال سنوات الصراع، وتجد نفسها اليوم أمام منافسةٍ جديدة في مرحلةٍ لا تزال فيها قدرتها على تحمّل المخاطر محدودة جداً.
رأس مال بشري مفكَّك
يعيد رأس المال البشري تشكيل نفسه، لكن بصورةٍ غير منسجمة. فالعائدون من ذوي المهارات غالباً ما يتقاضون أجوراً أعلى من العاملين المحلّيين، حتى بعد قبولهم بتخفيضات حادّة في رواتبهم. ويخشى الموظفون المحلّيون من عدم نيلهم الترقيات التي يستحقون أو استبدالهم بغيرهم. وفي الوقت ذاته، يجد العائدون صعوبة في التعامل مع الأنظمة غير الرسمية والترتيبات الإدارية الارتجالية التي نشأت خلال سنوات الحرب؛ وبدون دعمٍ مؤسّسي واضحٍ يبقى جزءٌ كبيرٌ من خبراتهم غير مُستغَّل.
في المقلب الآخر، يواجه العائدون ذوو المهارات المحدودة سوق عملٍ شبه عاجزة عن توفير حراكٍ تصاعدي لهم، فيما يتنافس العائدون المتنقّلون على العدد القليل المتاح من الوظائف عالية النوعية. وتبرز مشكلة إضافية تتمثّل في احتمال انكماش التحويلات المالية من الخارج، وهي من بين المصادر القليلة المستقرة للسيولة لدى الأسر، إذا عاد عددٌ كبيرٌ من السوريين من ذوي الدخل المنخفض أو المتوسط إلى البلاد بشكل نهائي.
وتبرز مشكلة أخرى عميقة تتمثّل في تفتّت الخبرة العملية. فاقتصادات العصر الحديث تقوم على قدرات لا تكمن في الأفراد وحدهم، بل في الشركات، وشبكات المورّدين، والجماعات المهنية. وفي سوريا تعرّض هذا النظام للاهتزاز والانقطاع: جزءٌ منه غادر البلاد، وجزءٌ آخر تآكل، وثالث نجا بصيغٍ ارتجالية. القدرات موجودة، لكن لا يدعم بعضها البعض الآخر. فالعائدون من ذوي الكفاءات لا يستطيعون تطبيق معارفهم بشكلٍ كامل، والعاملون المحلّيون لا يجدون المسار الذي يطوّر مهاراتهم، فيما تفتقر الشركات إلى النظم التنظيمية التي تحوّل هذا الكمّ المتناثر من الخبرات إلى إنتاجية حقيقية. كل العناصر موجودة، لكنّها ليست مجتمعةً في مكانٍ واحد، ولا ضمن شروط تسمح بالنمو.
لكن ما ينقص حتى الآن هو الأسس الضرورية التي تجعل المهارات ذات جدوى حقيقية: قواعد يمكن التنبؤ بها، ومؤسسات موثوقة، ومحاكم فاعلة، وإمداداتٍ مستقرة من الكهرباء والمياه، وشبكات نقل تدعم الحركة التجارية، إضافةً إلى شبكات حماية اجتماعية تتيح للناس أن يخطّطوا لمستقبلهم. وعلى العاملين أن يقتنعوا بأنّ بناء مسارٍ مهني داخل البلاد ليس تضحيةً بالنفس.
تعزيز رأس المال البشري
يتعيّن على الحكومة أن تفرض قواعد واضحة يمكن التنبؤ بها، وأن تعزّز الخدمات الأساسية، وتزيل الحواجز المحدّدة التي تَحول دون نمو الشركات. كما ينبغي لها حماية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وضمان عدالة التوظيف، ومواءمة أنظمة التدريب مع احتياجات سوق العمل. أمّا الجهات المانحة، فعليها أن تنتقل من البرامج التدريبية واسعة الطابع إلى استثمارات تبْني قدراتٍ إنتاجيةٍ حقيقية داخل الشركات والمؤسسات العامة. وقد يشمل ذلك تقديم مساعداتٍ فنية متخصّصة، وتطوير البنية التكنولوجية، والانخراط المباشر مع خبرات السوريين في بلاد الاغتراب بما يسمح بإدماجها في النشاط الاقتصادي داخل البلاد. وفي المقابل، يُطلب من القطاع الخاص، الذي تشكّل على مدى فترة طويلة تحت وطأة عادات الحذر في زمن الحرب، أن يُحدِّث أساليب عمله، ويُحسّن الممارسات الإدارية، ويبتكر مسارات تمكّن العمال من تطوير مهاراتهم داخل بيئات إنتاج حقيقية.
عاد أكثر من 1,1 مليون سوري إلى بلادهم منذ سقوط نظام الأسد، نصفهم تقريباً في سنّ العمل، منهم من قرر العودة إيماناً منهم بضرورة إعادة بناء بلادهم، ومنهم من اضطرّ لذلك بسبب تدهور أوضاعه المعيشية في بلدان اللجوء. وهكذا يعيد رأس المال البشري السوري تشكيل نفسه، قطعةً قطعة، عبر الحدود وداخل البلاد. لكن التعافي، وما إذا كان رأس المال البشري سيكون أساساً له أم ضحية للجمود المستمرّ، مسألةٌ تتوقّف على قدرة الحكومة والقطاع الخاص والجهات المانحة على تبنّي مقارباتٍ متكاملة ومترابطة بدلاً من المبادرات المتفرقة والمنعزلة.
هذا التحليل حصري من «التحالف السوري للمشاريع» Syrian Ventures Alliance وهي منصّة متخصّصة بالاستشارات الاستثمارية والاقتصادية.