لمن يكون المجتمع المدني؟
منظمات المجتمع المدني تعود إلى الواجهة، لكن معركة السيطرة عليها بدأت للتو
ديسمبر 2025
ها هي منظمات المجتمع المدني في سوريا تعود إلى الحياة، فيما تستعيد المجموعات القاعدية مساحاتها التي هُجرت طويلاً. وقد تدفّقت مئات المنظمات غير الحكومية إلى دمشق منذ سقوط النظام، في مزيج يجمع العائدين من المنفى والمنظمين المحليين ودولة تعيد تعريف دورها. من دوائر الدعم النفسي في داريا إلى فرق إصلاح الآبار في ريف دمشق، يقود الفاعلون المدنيون جهود التعافي بوتيرة أسرع من المؤسسات الرسمية. لكن أسئلة كبرى تظل معلّقة: من يضع القواعد؟ ومن يراقب من؟ وهل تستطيع سوريا بناء فضاء مدني مستقل حقاً من دون إعادة إنتاج أخطاء الماضي؟
في غرفة صغيرة في داريا جنوب غرب دمشق، طُلب من مجموعة من السوريات أن يشاركن الحضور موقفاً طريفاً تعرّضن له مؤخّراً. وبعد ضحكات متردّدة حاولن كتمها، وتبادُلٍ للأنظار بينهن، خيّم الصمت على المكان. كان السؤال قد طرحه الميسّرون في مُستهلّ جلسة الدعم النفسي الأسبوعية.
قالت رهف البياض، وهي مُيسِّرة دعم نفسي في الشبكة الدولية للإغاثة والمساعدة (Inara): «لقد نسينا كيف نضحك، وكيف نجد الفرح في تفاصيل حياتنا اليومية». وجاء كلامها من موقعها كمتخصّصة في هذا المجال، وكابنة مدينة عادت إليها حديثاً، بعد أن شهدت في عام 2012 إحدى أوائل المجازر في الحرب السورية، ثم أُفرِغت لاحقاً من معظم سكانها نتيجة سنوات من القصف المتواصل.
تحت حكم الأسد، كان الحديث بصراحة عن الصحة النفسية من المحرّمات، ليس اجتماعياً فحسب، بل سياسياً أيضاً. توضح رهف: «كان الناس يخفون مشكلاتهم. لم يكن مسموحاً لك أن تتحدّث عن خطفٍ تعرّض له أحدهم، أو قريب مفقود، أو حتى عن انقطاع الكهرباء وشُحّ المياه». فمثل هذه الاعترافات كانت تنطوي على مخاطرة بالتعرّض لعقاب من النظام. وتضيف رهف بنبرة يختلط فيها الفخر بالارتياح: «لكنّ الأمور باتت مختلفة الآن. النساء يأتين إلينا اليوم ويفضفضن بكل ما في صدورهنّ. يأتين ويطلبن المزيد من الجلسات».
© syriaintransition.com
العودة إلى الديار
تُعدّ الشبكة الدولية للإغاثة والمساعدة (إنارة) – وهي منظمة غير ربحية مسجّلة في الولايات المتحدة تقدّم الدعم الطبي للأطفال في مناطق الحروب منذ عام 2015 – نموذجاً لكثير من المنظمات غير الحكومية التي بدأت اليوم تفتح مكاتب لها في محيط دمشق. فبعد سنواتٍ من العمل في شمال سوريا، بدأت الشبكة نشاطها للمرة الأولى في الجنوب، في منطقة ظلّ فيها النظام راسخاً طوال سنوات الحرب. وهي واحدة من مئات المنظمات غير الحكومية التي تدفّقت إلى سوريا منذ سقوط الأسد في كانون الأول /ديسمبر 2024. ففي الأشهر الستة الأولى من عام 2025 وحدها، سجّل أكثر من 650 منظمة غير حكومية أسماءها في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في دمشق، فيما يزيد اليوم عدد المنظمات العاملة في مختلف المحافظات على 2400 منظمة.
عاد مسؤول برامج المنظمة، محمد الإمام، من المنفى ليؤسّس مركزاً في مدينته داريا بعد أسبوعين فقط من سقوط النظام. وقد مرّ حتى الآن أكثر من ألف امرأة وطفل عبر الغرفة الصغيرة التي تستأجرها المنظمة من جمعية شريكة.
© syriaintransition.com
وفي حديث لـ«سوريا المتجدّدة»: «هنّ يحببن التواجد هنا. إحدى السيدات وصلت قبل الموعد بساعتين فقط لتجلس في هذا المكان. وهذا في حدّ ذاته جزء من عملية التعافي». يتولّى إدارة البرنامج محلّياً سوريون يمرّون أيضاً بتجربة التعافي من صدماتٍ حديثة. هؤلاء سيبقون على عكس كثير من العاملين الدوليين.
إنّ عودة الأشخاص والمنظمات الساعية إلى إعادة بناء سوريا خطوة ضرورية ومرحّبٌ بها، وإن لم تَخلُ من المخاطر. فالكثير من العاملين في المجال الإنساني أمضوا أكثر من عقدٍ على حدود البلاد ينتظرون اللحظة التي يستطيعون فيها المساهمة في بناء «سوريا حرّة». وقد انضمّ البعض من أبرز الشخصيات في هذا القطاع إلى الحكومة الجديدة، من بينهم رائد الصالح من الدفاع المدني، وهند قبوات من منظمة «تستقل» النسوية. في المقابل، لا يزال آخرون يحاولون اكتشاف كيفية الانتقال من عقلية المعارضة – بما في ذلك موقفهم من الحكومة الجديدة التي تقودها هيئة تحرير الشام – إلى روح تعاونية تقوم على بناء الدولة والعمل معها.
قد تكون سوريا تمضي بخُطى حذرة نحو إلغاء كامل لعقوبات قانون قيصر، غير أنّ المستثمرين ما زالوا متحفّظين، ممسكين بمذكرات التفاهم في أدراجهم. وفي هذه الأثناء، تواصل المنظمات الإنسانية، الوطنية والدولية، سدّ فجوات الاحتياجات الهائلة في البلاد. لكن المساعدات الخارجية ما تزال هشّة وعرضة للتقلب، فيما يهدّد إرث استخدام المساعدات كسلاح واستتباع المنظمات غير الحكومية بإعادة إنتاج الأنماط القديمة ذاتها.
© syriaintransition.com
أروا السوريين المال
تُقدَّر كلفة إعادة الإعمار، وفق أكثر التقديرات تحفّظاً، بنحو 216 مليار دولار. وعلى الرغم من تدفّق موظفي المنظمات الدولية غير الحكومية إلى دمشق بسيارات الدفع الرباعي المصفَّحة، فإنّ أزمة المانحين العالمية واحتمال اندلاع صراع جديد يهدّدان بتقويض الجهود الإنسانية. كما أنّ تقليص إدارة الرئيس الأمريكي ترامب للمساعدات الخارجية في كانون الثاني/يناير الماضي وجّه بالفعل ضربة للعمليات الإغاثية، لا سيما في المحافظات الشرقية، مثل الحسكة والرقة ودير الزور.
وتعهّد المانحون الدوليون في آذار/مارس بتقديم 6,5 مليار دولار لسوريا، إلّا أن هذا المبلغ يبقى بعيداً جداً عن تلبية الاحتياجات الفعلية. وقد تجاوزت التبرعات لصندوق التنمية السوري العام الجديد – الذي أطلقه الرئيس أحمد الشرع في أيلول/سبتمبر – حاجز 85 مليون دولار، مع عرض أسماء «كبار الداعمين» على الموقع الإلكتروني.
ومن شأن البناء على «الرغبة في الدعم» و«حب الظهور» أن يشكّل نموذجاً فعّالاً يمكن الاستناد إليه في المدى القصير، غير أنّ القيود المصرفية ما زالت عائقاً أساسياً، والحاجة إلى مزيد من المانحين لا تزال قائمة.
وتتولّى الدول الخليجية سدّ فجوات كبيرة عبر تغطية رواتب موظفي الحكومة، وتسوية متأخّرات سوريا لدى البنك الدولي، والتعهد بتقديم أكثر من 10 مليارات دولار لمشروعات إعادة الإعمار، غير أنّ كثيراً من هذه المشاريع لا يزال قيد الإقلاع ولم يرَ النور بعد. سيساعد تراجع الحكومة الانتقالية عن الموقف السابق وعودتها إلى الانخراط مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في تهيئة مناخ أكثر جاذبية للاستثمار، لكن هذا المسار، شأنه شأن تخفيف العقوبات، ما زال في طور التشكّل ولم يكتمل بعد. وحتى إشعارٍ آخر، كما في الأعوام الأربعة عشر الماضية، يبقى المجتمع المدني هو جهاز الإنعاش الذي يُبقي سوريا على قيد الحياة.
© syriaintransition.com
في حديثٍ إلى «سوريا المتجدّدة» في وسط دمشق، يشدّد كنان القدسي، المتخصّص في الرقابة المالية والامتثال في القطاع الإنساني، على أنّ الاستقلالية والشفافية هما المفتاح لتحويل قطاع المنظمات غير الحكومية إلى شريك فعّال في عملية إعادة الإعمار.
لقد عَمِل القدسي في السابق مع الهلال الأحمر العربي السوري، قبل أن تقوّض تواطؤات المنظمة في استخدام النظام للمساعدات كسلاح صدقيتها بالكامل. وبعد فترة سجن قضاها في عام 2012، غادر سوريا وعمل مع منظمات في فرنسا وألمانيا وتركيا. لكنه، وقد عقد العزم على المساهمة من الداخل، عاد إلى البلاد وانضم إلى مجموعة صغيرة تعمل على إصلاح الآبار في ريف دمشق.
يشرح القدسي أنّ إصلاح بئر واحدة يحتاج إلى نحو خمسة أشخاص، وأربعة أيام عمل، ومبلغ يتراوح بين 1500 و20 ألف دولار. وباستخدام تمويل يأتي في معظمه من أبناء الجالية السورية في الخارج، تمكّنت المجموعة من إصلاح 18 بئراً خلال أربعة أشهر. وكان على الفريق التنسيق مع وزارات مثل وزارة المياه والشؤون الاجتماعية والعمل، للحصول على التراخيص اللازمة وتفادي الازدواجية في الجهود، إلّا أنّ البيروقراطية لم تشكّل عائقاً كبيراً أمام عملهم، على حسب قوله.
وقد برزت مبادرات محلّية كهذه في مختلف أنحاء البلاد. فمن مولّدات الكهرباء المجتمعية التي تنير أحياء حلب، إلى تعبيد الشوارع مجدداً في التل، وترميم المباني في داريا، غالباً ما يكون التنظيم الأهلي هو الطريق الأسرع والأكثر فاعلية نحو التعافي والحفاظ على الهدوء. وفي كثير من الحالات، تتقدّم هذه المبادرات بخطوات واضحة على أداء الحكومة.
© syriaintransition.com
مجتمعٌ مدني.. لا مجتمعٌ تحت السيطرة
ممّا لا شكّ فيه أنّ التنسيق مع الحكومة الانتقالية ومع المنظمات الدولية غير الحكومية المعنية بالمساعدات ضروري لتوسيع نطاق الجهود المدنية، لكنّ السيطرة ليست كذلك. فقد أثار غضبَ كثيرين في هذا القطاع إعلانُ الحكومة، في تشرين الأول/ أكتوبر، الإبقاء على القانون رقم 93 الصادر عام 1958، وهو نصٌّ عتيق كثيراً ما استُخدم في عهد الأسد لتقويض منظمات المجتمع المدني. ويفرض هذا القانون قيوداً واسعة النطاق، ويشترط الحصول على موافقات مسبقة على كل شيء تقريباً، بما في ذلك الحصول على التمويل الأجنبي. وقد جادلت منظمات سورية غير حكومية متعدّدة، بشكل علني، بأنّه يخنق استقلاليتها ويقوّض قدرتها التشغيلية.
يقول بكري زين الدين، مدير البرامج في منظمة مدنيّة، وهي مظلّة لمنظمات المجتمع المدني: «يتجاوز عمر القوانين في سوريا بمعظمها السبعين عاماً، ومن الواضح أنّها لم تعد صالحة لزمننا هذا». ويرى بعضهم أنّ القانون رقم 92 ليس سوى إجراء مرحليّ إلى حين صدور قانون بديل.
يعلّق زين الدين قائلاً: «أي تنازلات تُمنَح لاحقاً ستسمح للحكومة بأن تقول: انظروا، لقد وسّعنا هامشكم»، مضيفاً: «لكنّها قادرة أيضاً على تضييقه متى شاءت». وقد نقلت المنظّمة مخاوفها هذه مباشرة إلى الحكومة.
© syriaintransition.com
يقول الذين أمضوا أكثر من عقدٍ في الخارج يملؤون الاستمارات ويعدّون الملفّات للمانحين شديدي التدقيق: إنّ الآليات المعترف بها دولياً، مثل التصاريح الضريبية والتقارير المالية، ينبغي أن تحلّ محلّ أدوات الرقابة البالية. والخشية هي أن يؤدّي الإفراط في إجراءات التفتيش إلى إبطاء الجهود المدنية، والمخاطرة بإعادة إنتاج أنماط التلاعب التي سادت في عهد الأسد على أيدي بيروقراطية متغوّلة. ففي ظل النظام القديم، كانت المنظمات غير الحكومية تُجبَر على التنسيق مع هيئات مرتبطة بالدولة، مثل الهلال الأحمر العربي السوري والأمانة السورية للتنمية (STD) التي كانت تديرها أسماء الأسد، الأمر الذي أتاح تسييس المساعدات، وهو ما كشفه سجل الأمم المتحدة في المناطق الخاضعة للنظام بوضوح مؤلم.
صحيح أنّ المنظمات العاملة في مناطق سيطرة المعارضة لم تكن هي الأخرى بمنأى عن انتقادات مماثلة، غير أنّ سنواتٍ من الرقابة الخارجية والإجراءات التصحيحية ساهمت في إضفاء طابع مهني على عمل عدد كبير منها، واستبعاد أخرى من المشهد، مع أنّ هذا القطاع ما زال أمامه طريق طويل ليقطعه.
يقول القدسي: «ليست كلّ مجموعةٍ تريد أن تجتمع لتنظيف بعض الشوارع مضطرةً لأن تتحوّل إلى منظمة مجتمع مدني أو جمعية مرخّصة». لكن من دون رقابة واضحة وعادلة، يظلّ خطر الصفقات الفاسدة في الغرف المغلقة والتلاعب السياسي قائماً. وهنا يدور النقاش الساخن بين مختلف الأطراف المعنيّة حول سؤالين أساسيين: مَن يتولى الرقابة؟ وما الآليات التي ستُعتمد؟
وماذا عن إرث الماضي؟
لقد كان الاعتماد على البُنى الحوكمية القديمة، والقوانين والكوادر نفسها، على الرغم من النفور والرفض المحيطين بها، ضرورة براغماتية بالنسبة إلى الحكومة الانتقالية. فطاقات البلاد محدودة في مختلف المناطق، ولا سيما في المناطق التي كانت خاضعة سابقاً للنظام. وقطاع المساعدات المدنية ليس استثناءً من ذلك. صحيح أنّ الأسماء البارزة المتورّطة في جرائم حرب إنسانية، مثل خالد حبوباتي في الهلال الأحمر العربي السوري، اختفت من المشهد، لكن لا يزال الكثير من المتعاونين في مستويات الإدارة الوسطى في مواقعهم.
تقول نور عبد الله، الخبيرة في شؤون التنمية، في زيارة أجرتها إلى دمشق: «من الصعب التعامل مع أشخاص كانوا مقرّبين من النظام السابق، لكن علينا أن نتجاوز هذا الأمر مرحلياً، وأن نعمل على إخراجهم تدريجياً من المشهد».
وعلى الرغم من شحّ الكفاءات البشرية، فإنّ عودة عددٍ من المغتربين والتبدّل في كوادر المنظمات الدولية غير الحكومية يساعدان في سد الفجوات. وتشير عبد الله إلى أنّ العائدين من المنفى يمتلكون اليوم خبرات مهنية متقدّمة تشكّل مصدر قوة أساسي. وتضيف: «باتت لنا اليد العليا الآن. بعد أن أُجبرنا على الخروج، اكتسبنا خبرة تقنية في الخارج لا يملكها أولئك الذين بقوا تحت حكم نظام فاسد ومعزول».
© syriaintransition.com
إنّ هذه الازدواجية، بين من هم داخل سوريا وخارجها، ومن عاشوا في مناطق خاضعة للنظام أو خارجه، تضيف طبقات جديدة من التعقيد والتوتّر داخل هذا القطاع. فبالنسبة إلى الذين يملكون إقامات أجنبية، أو ترتبط حياتهم بعائلات وجوازات سفر ووظائف خارج سوريا، فإنّ زياراتهم القصيرة والمتقطّعة تنطوي على خطر تكريس نزعة نخبوية قائمة أصلاً في هذا الوسط. أمّا السؤال المطروح اليوم، فهو: هل يستطيع السوريون العاملون في القطاع الإغاثي، الذين بنوا مساراتهم المهنية ومعيشتهم في الخارج، أن يعيشوا داخل سوريا الآن؟ وإذا فعلوا ذلك، فعليهم توقّع انخفاضٍ في الرواتب ومستويات المعيشة، فضلاً عن تقلّص في حرياتهم الشخصية والسياسية. أمّا إذا لم يعودوا، فإنّ الفجوة قد تتّسع أكثر بين «السوريين الهابطين بالمظلة» الذين يرفعون شعارات الحقوق المدنية فوق موائد مشروبات باهظة الثمن، والغالبية الساحقة من السكان الذين يعيشون على حافة الفقر، إلى درجة قد تجعل من الصعب الحفاظ على المصداقية.
كما وإنّ إبرام تسويات براغماتية مع إرث الماضي ليس حكراً على المجتمع المدني وحده. فبعد أن وبّخ الرئيس الشرع الأمم المتحدة علناً في وقتٍ سابق من هذا العام لعجزها عن «إطلاق سراح أسير واحد»، بات التعاون معها اليوم يسير على قدم وساق. يتدفّق موظفو الأمم المتحدة إلى البلاد، ويتسابق المتعهّدون على تأمين مساكن لهم، الأمر الذي يدفع الأسعار إلى الارتفاع، فيما تصطف مكاتب المنظمات الدولية غير الحكومية على جانبي شوارع الأحياء الراقية في دمشق. مما لا شكّ فيه أنّ المقاهي الفاخرة ومالكي المكاتب سيجنون أرباحاً مجزية من هذه الطفرة، لكن الأمل معقود أيضاً على أن ينعكس ذلك، ولو جزئياً، على السوريين العاديين. ومع ذلك، فإنّ الانتقادات القديمة حول «فقاعة» قطاع المساعدات ومنظمات المجتمع المدني، وما إذا كانت تعود بالنفع على المجتمع الأوسع، مرشّحة حتماً للعودة إلى الواجهة. غير أنّ الأمل قائم على تقلّص هذه الفقاعة مع مرور الوقت، مع تطبيق إستراتيجيات «التوطين»، وتعاظم قدرات الدولة المؤسسية، وحُسن إنفاق مساعدات إعادة الإعمار.
منظمات المجتمع المدني تكبح السلطة
لقد كان التصدّي لتغوّل الدولة جزءاً ثابتاً من مهمة منظمات المجتمع المدني في سوريا. فمنذ عام 2011، تداخلت أدوار النشاط السياسي والعمل الإنساني والمشاركة السياسية وتشابكت. ويشكّل نقد القانون رقم 93، ومقاومة محاولات حشر المنظمات تحت مظلّات مركزية، ومساءلة بقايا المنظومة القديمة، وجهاً آخر من أوجه الدور التصحيحي الذي تضطلع به هذه المنظمات.
ويُعدّ أحد البرامج المحورية في منظمة «مدنيّة» تطوير مؤشّرات تقييم لمتابعة مسار التحوّل السياسي في سوريا على مدى السنوات الخمسة المقبلة. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ساعدت المنظمة في تنظيم «يوم الحوار» الأوّل الذي يُعقد داخل سوريا، في دمشق، بعد أن كان يُنظَّم سابقاً في بروكسل. وقد شارك في تنظيمه كلّ من الاتحاد الأوروبي والحكومة السورية، وتمحوَر حول دور المجتمع المدني في العدالة الانتقالية، واللُحمة الاجتماعية، ومسارات التعافي.
بعد أربعة عشر عاماً من قيام منظمات المجتمع المدني عملياً بدور الحكومة في أجزاء كبيرة من البلاد، بات عليها اليوم أن تتعامل مع واقع العمل تحت سلطة دولة قائمة. يعترف زين الدين قائلاً: «الوضع معقّد للغاية. لكن علينا أن نكون هنا لنستعيد حيّزنا. فلا سلطة تتخلّى طواعيةً عن المجال المدني».
تُعدّ منظمة ماري للبحوث والتنمية (MRD) منظمة غير حكومية تُعرّف عن نفسها بأنّها معنيّة بـ«تبادل المعرفة وتمكين العمل المدني»، ومسجّلة في كندا. وقد نفّذت منذ عام 2019 برامج في شمال شرقي سوريا. في مكتبها الجديد بدمشق، تتحرّك المنظمة بسرعة لتعويض ما فاتها من عمل في المناطق التي كانت خاضعة للنظام سابقاً، والتي كانت تُعدّ حتى كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي مناطق «محظورة» بالنسبة إليها. ففي جلسة تمهيدية حول السياسة، اكتظّت الغرفة بنساء يُصغين باهتمام إلى شروحات حول معنى الحوكمة الرشيدة وكيف تعمل. وبين تعريفات الدساتير واللجان، اندلع نقاش حيوي حول ما إذا كان ينبغي لسوريا أن تتجه إلى انتخابات فورية؛ وهو نقاش لم يكن أحد قبل عام واحد فحسب يتصوَّر أن يجري.
© syriaintransition.com
تقول رنا إسماعيل، وهي معلّمة معلوماتية تتوق إلى أن يُسجَّل اسمها في الفصل السياسي الجديد من تاريخ سوريا: «لم نكن نجرؤ حتى على الضغط على زرّ الإعجاب على منشور يعجبنا سابقاً، أمّا اليوم فهذا هو المجتمع المدني الحقيقي».
ويُقِرّ الدكتور إياد أمين – المدير التنفيذي لمنظمة ماري للتنمية – بأنّ «عامل الخوف» ما زال أعلى بين السوريين في أماكن مثل دمشق مقارنةً بمن هم في الشمالين الغربي أو الشرقي، لكنّه يشدّد في الوقت نفسه على أنّ المرحلة الحالية تمثّل «فرصة ذهبية» أمام منظمات المجتمع المدني للتفاعل مع الحكومة. ويضيف: «يحقّ لمنظمات المجتمع المدني أن تفخر بما أنجزته؛ فقد ساهمت في إبقاء سوريا على قيد الحياة وفي الحفاظ على روح الثورة. إنّها جزء لا يتجّزأ من مسار تحرّر سوريا».
وبفضل هذا الدور، انتقل عدد من قيادات المجتمع المدني السابقين إلى العمل السياسي، وتولّى بعضهم مناصب وزارية أو مقاعد في البرلمان. وعلى الرغم من الترحيب العام بهذه الخطوة، إلّا أنّها أثارت في المقابل مخاوف من احتمالات استلحاق الدولة لهذه النخب وتحويل منظمات المجتمع المدني إلى مجرّد مُصفّقين للسلطة. ويرى الدكتور أمين أنّ الحلّ يكمن في رسم خطوط فاصلة واضحة بين مَن يمسكون بزمام السلطة، ومَن تُناط بهم مهمّة مساءلتهم ومحاسبتهم.
ويعتقد أيضاً أنّ على المنظمات السورية غير الحكومية أن تقلّص اعتمادها على المانحين الأجانب، وأن تتّجه نحو مصادر دخل أكثر استدامة، قادمة من القطاع الخاص والمؤسسات الخيرية. فقد فقدت منظمته التمويل الأمريكي، لكنها تمكّنت، بفضل تنويع مصادر الدعم، من مواصلة عملها ولو جزئياً. ويشرح قائلاً: «يمكنك أن تفعل الكثير من خلال غرفة واحدة ليس إلّا».
الآمال معلّقة اليوم على أن تغتنم منظمات المجتمع المدني هذه اللحظة لبناء هيكلية جديدة للعمل المدني، تقوم على النزاهة والواقعية وروحٍ حقيقية شاملة في بناء الدولة، على أمل أن تدعم الحكومة والجهات المانحة الأجنبية هذا المسار لذاته، وليس بوصفه أداة لخدمة أجندات أخرى.