© Shelly Kittleson

Cover image
المقابلات

عدالة بلا خريطة طريق

حوار مع السفير الأمريكي السابق لقضايا جرائم الحرب ستيفن راب

ديسمبر 2025

في ظل الشكوك المحيطة بإمكانية الملاحقة القضائية لأكثر من جزء بسيط من الجرائم التي ارتُكبت في سوريا منذ عام 2011، أجرت «سوريا المتجدّدة» حوارين مع ستيفن راب، السفير الأمريكي السابق لقضايا جرائم الحرب والرئيس الحالي لمنظمة «لجنة العدالة الدولية والمساءلة» (CIJA)، حول ما يمكن فعله وما ينبغي القيام به في هذا المجال.

فيما يروّج وزير العدل في سوريا لسلسلة من الاجتماعات المكثّفة مع دبلوماسيين أجانب، لا يزال ضحايا الجرائم يفتقرون إلى أي تصوّر واضح عمّا إذا كانت هناك خطة متماسكة لملاحقة الطيف الواسع من الجناة قضائياً؛ ليس في صفوف كبار المسؤولين في نظام الأسد فحسب، بل أيضاً آلاف القادة المتوسطين وضبّاط الأجهزة الأمنية وزعماء الميليشيات والمقاتلين.

وبالنسبة إلى الكثير من السوريين، لا تنحصر المسألة فيما سيؤول إليه مصير قلّة من «أسوأ مرتكبي الجرائم»، بل في كيفية تعامل المرحلة الانتقالية مع شريحة كاملة من الأفراد الذين قد يشكّلون أخطاراً على المستوى الشخصي والمجتمعي.

وبعد الزيارة التي قام بها السفير ستيفن راب في أواخر نيسان/أبريل لمواقع مقابر جماعية شمالي دمشق اكتشفها سكان محلّيون بعد سقوط نظام الاسد، قال في حديثه إلى «سوريا المتجدّدة»: «يجب أن تكون الأولوية بعد هذه الفترة المروّعة من الفظائع الجماعية، وهي الأسوأ في القرن الحادي والعشرين، لإرساء الحقيقة»، مضيفاً: «وبعدها، وانطلاقاً من هذه الحقيقة، يمكن التقدّم في مسار تحقيق العدالة والمساءلة».

وشدّد على أنّ أكثر الأدلّة حسماً تكمن في الوثائق التي خلّفها النظام السابق نفسه. وقال: «تمتلك "لجنة العدالة الدولية والمساءلة" مليوناً وثلاثمائة ألف وثيقة حصلت عليها من مراكز استخباراتية سقطت بيد المعارضة». لكنّه أوضح أنّه «بشكل عام لا تزال حوالي عشرين مليون صفحة بحاجة إلى المسح الضوئي والرقمنة والتحليل».

استراتيجية غائبة

بحلول أيلول/سبتمبر، وأثناء إجراء حوار موسّع ثانٍ مع السفير راب في دمشق، بدت وكأنّ نبرته قد ازدادت حدّة. ما أقلقه أكثر من غيره كان غياب خريطة طريق واضحة. وقال: «بصراحة، عندما يكون لديك أشخاص موقوفون، ينبغي المضي قدماً في الملف»، مضيفاً: «إذا كان شخص ما موقوفاً لمدّة عامين بينما لا يزال النقاش قائماً حول كيفية المضي قدماً، فلا بدّ من وجود آلية مستقبلية يمكنه التطلّع إليها».

كما شرح الأساس القانوني لتطبيق القانون الدولي. وقال: «لكي تحاكم شخصاً في ألمانيا على جرائم ارتُكبت في بلد آخر، لا بدّ من إثبات أنّ هذه الأفعال ترقى إلى جرائم دولية، أي جرائم ضدّ الإنسانية، وتشكّل جزءاً من هجوم واسع النطاق ومنهجي. لهذا السبب، في قضية أنور رسلان، كان على المحكمة أولاً أن تُثبت طبيعة الجريمة نفسها». وأضاف قائلاً: «القانون الدولي موجود في كل مكان، بموجب المعاهدات والأعراف، ولذا يمكن لأي محكمة تملك ولاية قضائية أن تطبّقه».

لكن هذا السقف القانوني ليس شرطاً في كلّ القضايا. فقال: «في كثير من الأحيان يمكن ملاحقة سلوك إجرامي واسع النطاق باستخدام القانون الجنائي الداخلي العادي». وأضاف: «قد يعترض البعض على أنّ مصطلح "جرائم ضد الإنسانية" لم يُستخدم، لكن مع ذلك يمكن تحقيق قدر من المساءلة».

التواصل مع الرأي العام

عقد مسؤولو «لجنة العدالة الدولية والمساءلة» سلسلة اجتماعات متكرّرة مع وزارات في الحكومة السورية على مدى الأشهر الأخيرة، ويصف راب منظومة حكومية تحاول التكيّف مع وقائع عملية معقّدة. فقال: «وزارتا الداخلية والعدل تعملان بطريقة براغماتية. لديهما نحو ستة آلاف موقوف. وحدسهما يقول أنّه لا بدّ من الإفراج عن الكثيرين منهم، لكن لا بدّ من تحديد منهجية التعامل مع هذا الملف». غير أنّ التصريح بذلك علناً يظلّ أمراً بالغ الحساسية. وأضاف راب قائلاً: «كلما قال أحدهم لن نحاكم الجميع، يرتفع صوت الاحتجاج». وتابع: «من خلال لقاءاتي مع الضحايا، ربما يريد نصفهم أن تتم ملاحقة الجميع قضائياً، بينما يطالب آخرون بحصر المحاسبة بالكبار من مرتكبي الانتهاكات».

علّمته تجربته في المحاكم الدولية أهمية الوضوح أمام الرأي العام. وفي هاذ السياق قال: «في سيراليون، كنّا نخرج باستمرار إلى المجتمعات المحلّية لنشرح للناس لماذا نحاكم هذا الشخص ولا نحاكم ذاك». وتابع متذكّراً: «عقدنا اجتماعات مع آلاف الأشخاص وشرحنا لهم من هم الذين نملك تفويضاً لتوجيه الاتهام إليهم، ومن هم الذين يخرجون عن نطاق هذا التفويض».

في سوريا، اتّسمت المرحلة الأولى التي أعقبت سقوط الأسد بقدر كبير من الالتباس. وقال راب: «في البداية، كان يُقال لأعضاء النظام السابق: لا تغادروا البلاد، ابقوا في أماكنكم. ثمّ ما لبث أن جرى توقيف بعض الذين حاولوا المغادرة. لكنّ التوقيف لا يعني تلقائياً أنّ هناك ما يكفي من الأدلة».

وشدّد راب على أنّ المبدأ في جوهره بسيط: «لا يمكنك احتجاز عدد كبير من الأشخاص لفترة طويلة. إذا كان شخصٌ ما مقاتلاً ولا يزال يمثّل تهديداً، قد يكون استمرار توقيفه مبرَّراً، لكن ليس إلى أجل غير مسمّى. هنا تصبح الإستراتيجية عاملاً حاسماً».

بناء إطار قانوني يثق به السوريون

وقال راب: «لا تتوافر الموارد الكافية للتحقيق مع الجميع. ثم إنّ المحاكمات الغيابية تقتضي إعادة المحاكمة بمجرّد توقيف المشتبه به».

هذا الواقع يجعل مسألة ترتيب الأولويات، إلى جانب الوضوح القانوني، أمرين حاسمين.

وقال موضّحاً: «لا بدّ من حسم مسألة الإطار التشريعي». فإصدار قوانين جديدة تُطبَّق بأثر رجعي قضية شديدة الحساسية، لكن «يمكن تبنّي قانون وطني بأثر رجعي إذا كان يقتصر على تقنين قانون الأمم الذي كان سارياً في حينه».

وأشار السفير راب إلى أن بعض السوريين قد يجدون مفاهيم القانون الدولي غير المألوفة عصيّة على الفهم بقوله: «كقاعدة عامة، لا ينبغي أن يكون لديك مسار قضائي يعجز الناس عن استيعابه». ومع ذلك، قد يكون اللجوء إلى القانون الدولي لا غنى عنه في بعض الجرائم، مثل حالات الحصار واستهداف المستشفيات والقصف العشوائي.

قال موضّحاً: «على سبيل المثال، إذا كانت "لجنة العدالة الدولية والمساءلة" تساعد في التحقيق في قصف حلب، فسيتعيّن على المحققين السوريين الوصول إلى مقرّ قيادة سلاح الجو للاطّلاع على كيفية إصدار الأوامر وتنفيذ العمليات ورفع التقارير بشأنها»، متابعاً: «قد تبدو الوثائق عصيّة على الفهم للوهلة الأولى، لكنّها كثيراً ما تكشف ما يكفي من المعطيات؛ مثل الإشارة إلى المستشفيات التي تعالج مقاتلي المعارضة بوصفها منشآت إرهابية».

وأضاف راب أنّه: «في كثير من الجرائم، قد يكون القانون الداخلي كافياً»، مستدركاً أنّه «في قضايا أخرى، مثل استخدام الأسلحة المحظورة، غالباً ما تبرز الحاجة للاحتكام إلى القانون الدولي».

الخطوات التالية

أشار راب إلى أنّ وزارتي العدل والداخلية قد باشرتا بالفعل في تحريك دعاوى بحق عدد من الموقوفين البارزين، الذين قد يُحالون قريباً إلى المحاكمة بموجب القوانين النافذة حالياً. وتقدّم «لجنة العدالة الدولية والمساءلة» الدعم للسلطات السورية من خلال تزويدها بالأدلة الوثائقية كلّما طُلب منها ذلك.

وقال راب: «من وجهة نظري، أهم ما يمكن أن تفعله "لجنة العدالة الدولية والمساءلة" هو ضمان أن تستند أي قضية تُرفَع إلى أدلة راسخة ومتينة».

غير أنّ التحدّي الأوسع يبقى بلا حسم: فسوريا تحتاج إلى إستراتيجية لتحقيق العدالة يستطيع السوريون فهمها والثقة بها، وتكون قادرة في الوقت نفسه على إدارة التوقّعات في سياق يستحيل فيه تحقيق عدالة كاملة وشاملة. أمّا البديل، فهو ترك الأمور تسير بلا بوصلة، وهو مسار بالغ الخطورة في الفترات الانتقالية.

العودة إلى الأعلى

المقابلات

اشترك ليصلك آخر أعداد مجلة سوريا المتجدّدة إلى بريدك الإلكتروني.

* يشير إلى الحقول المطلوبة
العربية