© syriaintransition.com

Cover image
الديناميكيات المحلية

ما الذي تبقّى من الجيش الوطني السوري

فصائل الجيش الوطني مشتّتة.. لكن لم يحن وقت حلّها بعد

ديسمبر 2025

اختفى «الجيش الوطني السوري» على الورق، لكن فصائله – بعد أن أُعيدت تسميتها أو نقلها أو ابتلاعها بهدوء – لا تزال ترسم ملامح المشهد الأمني في البلاد. فـ«الحلّ» الشامل الذي طوى الفصائل الثورية داخل تشكيلات عسكرية جديدة ترك كثيراً من شبكات الربح والولاءات والنفوذ الخارجي تعمل من تحت الطاولة. ومن عفرين إلى دير الزور، باتت وحدات الجيش الوطني السابقة تؤدي دور القوات المساندة: كبيرةٌ بما يكفي لئلا تُهمَل، ومفيدةٌ بما يجعل تفكيكها بالكامل أمراً غير وارد.

في النصف الثاني من الحرب الأهلية السورية، كشف صعود ما يُسمّى الجيش الوطني السوري حجم التشرذم الذي بلغته فصائل الثورة في الشمال. فقد تبلورت على الأرض منطقتان واضحتان: إدلب وأريافها الخاضعة لهيمنة هيئة تحرير الشام وشركائها في الجبهة الوطنية للتحرير؛ والشريط الحدودي الشمالي الممتد عبر محافظات حلب والرقة والحسكة، والخاضع لسيطرة الجيش الوطني السوري والواقع عملياً تحت إشراف تركي مباشر.

كان اسم الجيش الوطني السوري يوحي بوجود قوة منسجمة ومحترفة، منظَّمة في فيالق وفرق وألوية. لكن في الواقع، ظلّ جزء كبير من هذه الهيكلية حبراً على ورق ليس إلّا. فاستحداث فرق ضمن الإطار المرسوم كان يفترض وجود تسلسل قيادي متفَق عليه، وهو ما لم يُنشأ عملياً في أي مرحلة.

من مقاتلين لأجل الحرية إلى قوات بالوكالة

كان الجيش الوطني السوري أشبه باتحادٍ فضفاض من الفصائل، مغلَّف بلغة الجيوش المحترفة. ففي مرحلة معيّنة داخل الفيلق الثاني، على سبيل المثال، كانت «فرق» كاملة ليست سوى واجهاتٍ لفصيل واحد: ففصيل السلطان مراد هيمن على الفرقتين 21 و24، فيما سيطرت فرقة حمزة على الفرقة 22، وتسلّم جيش الإسلام وفيلق الرحمن، اللذان أُخرجا من الغوطة الشرقية، قيادتي الفرقتين 25 و26 على التوالي. أمّا ميدانياً، فقد تبدّلت التسميات وانتقل بعض التشكيلات بين الفيالق، لكن الفصائل وبُنيتها الفصائلية ظلّت على حالها داخل الجيش الوطني. ويمكن الاستعانة بتشبيهٍ مفيد لفهم هذه البنية من خلال قوات الحشد الشعبي في العراق، التي لا تزال حتى اليوم، تحافظ بشكلٍ عام على الهويات الفصائلية المميّزة لألوية مكوِّناتها.

بالنسبة إلى منتقدي الجيش الوطني السوري، فقد تحوّل الأخير إلى رمز لحكم العصابات، وإلى صورة عن تحوّل ما كان يُحتفى به يوماً بوصفه «الجيش الحرّ الجيّد» إلى شبكة من الوكلاء المدعومين من تركيا

تُعدّ حركة التحرير والبناء، التي تأسّست في شباط/فبراير 2022 بقيادة زعيم أحرار الشرقية أبو حاتم شقرا، مثالاً دالّاً على ذلك. فقد عملت الحركة كتكتّل إقليمي يضمّ مقاتلين ينحدرون تقريباً بالكامل من الرقة ودير الزور ومنطقة البادية. واليوم أُعيد تنظيمها تحت مسمّى «الفرقة 86» في الجيش الوطني، وهي الفرقة التي تتولّى السيطرة على خطوط التماس مع قوات سوريا الديمقراطية في دير الزور. أبو حاتم، الذي بات يحمل رتبة عميد، قال بثقة لوكالة رويترز في أيلول/سبتمبر إنّه لا يخشى خسارة رتبته العسكرية بسبب الانتقادات الغربية لسجلّه في مجال حقوق الإنسان، مبرِّراً ذلك بقوله: «كيف يمكن للشرع أن يسحبها منّي؟ نحن من منحناه سلطته حين اتفقنا عليه رئيساً».

كل ذلك يكرّس حقيقة أنّ مشروع الجيش الوطني لبناء جيش وطني موحّد لم يغادر يوماً حدود المخطّطات النظرية.

بالنسبة إلى منتقدي الجيش الوطني السوري، فقد تحوّل الأخير إلى رمز لحكم العصابات، وإلى صورة عن تحوّل ما كان يُحتفى به يوماً بوصفه «الجيش الحرّ الجيّد» إلى شبكة من الوكلاء المدعومين من تركيا. وقد استندت هذه الاتهامات إلى وقائع ملموسة: من الاستيلاء الواسع على ممتلكات الأكراد عقب هجوم عفرين عام 2018، إلى دور الجيش الوطني في العمليات ضدّ قوات سوريا الديمقراطية في الرقة والحسكة، ثمّ إرسال مقاتليه للقتال في ليبيا وناغورنو قره باغ دعماً لحلفاء أنقرة. في شمال سوريا، كان الاقتتال الداخلي على النفوذ الجغرافي، ونقاط التفتيش، وطرق التهريب أشبه بالقاعدة لا بالاستثناء. وتدخّلت هيئة تحرير الشام في أحيان كثيرة مباشرةً لمصلحة شركاء مفضّلين، ولا سيما أسوأ الفصائل داخل الجيش الوطني مثل فصيل سليمان شاه الذي يقوده محمد الجاسم، المعروف بـ«أبو عمشة»، الخاضع لعقوبات دولية، والذي بات هو الآخر يحمل رتبة عميد. وقد تصاعدت هذه التدخّلات عام 2022 إلى توغّلات محدودة داخل مناطق سيطرة الجيش الوطني، ما أثار مقاومة من فصائل محلّية ومن تركيا. غير أنّ الانطباع الذي ترسّخ في النهاية كان عن مشهد «ثوري» يبتعد باطّراد عن أي شيء يشبه جيشاً وطنياً متماسكاً.

إعادة التموضع

ما الذي تبقّى اليوم من الجيش الوطني؟ على الورق، لا شيء تقريباً. فقد حُلّت رسمياً جميع الفصائل، بما فيها تلك التي كانت تحت مظلّة الجيش الوطني، خلال مؤتمر النصر الذي عُقد في كانون الثاني/يناير، حيث جمع أحمد الشرع عشرات قادة الفصائل ليبايعوه بوصفه «زعيم الزعماء». بعد ذلك، بدأت وزارة الدفاع في الحكومة الانتقالية بضمّ فصائل الجيش الوطني إلى فرق عسكرية جديدة التشكيل، في عملية أفرزت بنية تنظيمية غير متجانسة، وفي كثير من الأحيان متناقضة في تفاصيلها.

ظاهرياً، تبدو الفِرَق الجديدة وكأنّها تجاوزت الهويّات الفصائلية التي طبعت الجيش الوطني السوري. فقد اختفت إلى حدّ كبير شعارات الفصائل القديمة عن الزيّ العسكري ولوحات التعريف. وفي ريف حلب الشمالي، اختفت غالبية الحواجز التي كانت تتبع لفصائل الجيش الوطني، وأزيلت في الغالب الصور واللافتات التي كانت تخلّد «شهداء» تلك الفصائل، بينما أصبح الكثير من معسكرات التدريب والمقار السابقة مهجورة. أمّا عملية حفظ الأمن، فتتولّاه اليوم قوى الأمن الداخلي، وهي قوة جديدة تُديرها وزارة الداخلية، تمزج بين مهام الشرطة والدرك، وتعتمد على نواة صلبة من عناصر هيئة تحرير الشام، مدعّمة بمقاتلين سابقين من الجيش الوطني ومجنّدين جدد.

وقد قوبِلَ استحواذ دمشق على الملف الأمني بترحيب واسع من السكان المحلّيين، لكنّه لم يُؤدِّ بالضرورة إلى محو شبكات النفوذ والربح التي نسجها الجيش الوطني سابقاً. فهذه الشبكات لا تزال قائمة، وإنْ باتت تعمل في الخفاء. ففي عفرين، على سبيل المثال، أقرّت الحكومة آليات رسمية تتيح للأكراد المهجَّرين المطالبة باستعادة الممتلكات التي صودرت في زمن سيطرة الجيش الوطني. غير أنّ عدداً من التقارير يفيد بأنّ الكثير من شبكات المصالح ذاتها التي نشأت في عهد الجيش الوطني، وإنْ بات أصحابها اليوم يرتدون زيّ الجيش والأجهزة الأمنية الجديدة، لا تُبدي حماسة للتخلّي عن منازل وأراضٍ زراعية ومتاجر توفّر لها وللمقرّبين منها سكناً ودخلاً ثابتاً. وفي بعض الحالات، يرفض أفراد ما يُفترض أنّه الجيش الجديد ببساطة إعادة تلك الممتلكات إلى أصحابها.

بعض فصائل الجيش الوطني التي عُرفت في السابق بسبب علاقاتها المتوتّرة مع هيئة تحرير الشام جرى اليوم استيعابها داخل شبكة الهيئة

ويعود تراجع المظاهر العلنية للفصائلية في المناطق التي كان الجيش الوطني يسيطر عليها سابقاً إلى عاملين متداخلين:

أولهما أنّ بعض هذه الفصائل، ولا سيما الصغيرة منها، جرى استيعابها فعلياً داخل البُنى العسكرية والأمنية الجديدة. ففي عفرين، يتولّى قيادة الفرقة 80 القائد السابق لفصيل نور الدين الزنكي بعد إعادة تشكيله، وتضمّ هذه الفرقة مقاتلين من عدد من المجموعات التابعة للجيش الوطني باتت اليوم منحلّة، من بينها أجزاء من تكتّل صغير في الفيلق الثالث كان يُعرف باسم حركة النهضة والتحرير. غيرّ أن مقاتلين آخرين من حركة النهضة والتحرير نُقلوا إلى تشكيلات أخرى. فبعضهم أُدمج في الفرقة 72 المتمركزة أيضاً في محافظة حلب، كما أوضح ثائر معروف، القائد السابق للواء سمرقند (أحد مكوّنات الحركة)، في تصريح لـ«سوريا المتجدّدة».

ثانياً: أُعيد توزيع بعض الفصائل الأكبر والأكثر شهرة في الجيش الوطني، تلك التي دخلت في تركيبة الجيش الجديد مع الإبقاء إلى حدّ كبير على شبكات التهريب وأنشطة الجباية غير المشروعة التي راكمتها، بعيداً عن مناطق نفوذها التقليدية، بحيث بات من الأصعب عليها تكرار ممارساتها الافتراسية بحق «أهلها» مباشرة. فالفرقة 62، التي كانت تُعرف سابقاً باسم فرقة السلطان سليمان شاه، باتت اليوم تتمركز في حماة، وهي المحافظة التي ينحدر منها معظم مقاتليها، بدلاً من ساحة تحرّكها السابقة في عفرين. وبالمثل، انتقلت الفرقة 86، المؤلّفة في معظمها من مقاتلي أحرار الشرقية ومجموعات أخرى منضوية سابقاً في حركة التحرير والبناء والمتمركزة في ريف حلب الشمالي وتل أبيض، إلى دير الزور. أمّا فصيل جيش الإسلام، فقد جرى ضمّه إلى الفرقة 70 وأعيد إلى موطنه الأصلي في الغوطة الشرقية.

بعض فصائل الجيش الوطني التي عُرفت في السابق بسبب علاقاتها المتوتّرة مع هيئة تحرير الشام جرى اليوم استيعابها داخل شبكة الهيئة التي تتصدّر هرم الحكومة وذراعها العسكري. ففي أعزاز، أُدمج لواء عاصفة الشمال، الذي كان فيما مضى جزءاً من الجبهة الشامية، واشتهر طويلاً بمقاومة تمدّد هيئة تحرير الشام، في قوام الفرقة 60 في الجيش، وهي فرقة يتولّى قيادتها قيادي سابق في الهيئة. كما وأنّ تعيين مضر النجّار، أحد الوجوه البارزة في الجبهة الشامية، نائباً لقائد الفرقة (برتبة عميد أيضاً)، يوحي بوجود تسوية تفاوضية بين الأسياد الجدد وخصوم الأمس. وهي تسوية لا تقوم على اندماج كامل بقدر ما تعكس عملية استيعاب مُدارة بعناية، تُبقي على الشبكات الأساسية للفصيل تحت رقابة قيادي مخضرم من هيئة تحرير الشام.

لا تزال مفيدة

مجتمعةً، تمنح هذه التحوّلات قدراً من المصداقية لخطاب الحكومة القائل إنّ فصائل الجيش الوطني قد جرى «حلّها». ولا شكّ أنّ الجيش الوطني لم يعُد قائماً اليوم ككتلة متماسكة تمتلك مجالاً إدارياً مستقلاً كما في السابق. ولكن السؤال المفتوح الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت الحكومة التي تقودها هيئة تحرير الشام قادرة فعلاً على استيعاب هذه المجموعات ودمجها بالفعل، في حين أنّ عناصرها ورتبها الدنيا يفوقون عدداً قوات الهيئة نفسها. والإجابة بالتأكيد لا تكمن في لغة إصلاح قطاع الأمن (SSR) التقنية وحدها.

ويبرز عائقٌ رئيسي آخر أمام بناء هياكل دفاع وطنية حقيقية يتمثّل في رعاية القوى الخارجية للتشكيلات المسلّحة. فهذه القوى ليست مستعدّة للتخلّي بسهولة عن وكلائها على الأرض؛ وينطبق ذلك بالقدر نفسه على قوات سوريا الديمقراطية، والحرس الوطني في السويداء، وما تبقّى من الجيش السوري القديم (المتحصّن في جبال الساحل)، وعلى الجيش الوطني أيضاً.

إنّ الغموض الكامن في قلب هيكلية العنف هذه في سوريا يخدم من المصالح المحلية والإقليمية ما يجعل تفكيكه مهمّة شديدة التعقيد

عندما زحفت القوات بقيادة هيئة تحرير الشام نحو دمشق، كانت تشكيلات من الجيش الوطني هي من تولّت دفع قوات سوريا الديمقراطية بعيداً عن منبج. وقد جاء ذلك بما يرضي جميع الأطراف؛ إذ تفادى الشرع التورّط مباشرة في قتال قوة تُعدّ حليفاً للولايات المتحدة، فيما احتفظت تركيا بوكلائها على الأرض بما يتيح لها الإبقاء على الكلمة شبه الفصل في الملف الكردي. وبعد عام على ذلك، لا تزال هذه المجموعات السابقة في الجيش الوطني، التي تعمل اليوم تحت مسمّى فرق عسكرية في الجيش السوري، ترابط على خطوط التماس وتخوض اشتباكات متكرّرة مع قوات سوريا الديمقراطية. وبالنسبة إلى أنقرة، تمثّل هذه التشكيلات ورقة ضغط، ليس على «قسد» فحسب، بل على الشرع أيضاً، إذا ما توقّف عن الإصغاء إلى «نصائحها». إذ يعتبرها الشرع قوة يمكن إطلاق يدها مع الحفاظ في الوقت نفسه على قدر من الإنكار المقبول، مع إبقاء نواته الصلبة في هيئة تحرير الشام للجولات التي يعتبرها مصيرية.

إنّ الغموض الكامن في قلب هيكلية العنف هذه في سوريا يخدم من المصالح المحلية والإقليمية ما يجعل تفكيكه مهمّة شديدة التعقيد.

العودة إلى الأعلى

الديناميكيات المحلية

اشترك ليصلك آخر أعداد مجلة سوريا المتجدّدة إلى بريدك الإلكتروني.

* يشير إلى الحقول المطلوبة
العربية